ترك انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم، ليتحول العالم بعد ذلك إلى عالم أحادي القطب.
بيد أنه منذ حوالي 15 عاماً تغير العالم مرة أخرى، وأصبح الأمر أكثر تعقيداً، عزفت الولايات المتحدة عن الاهتمام بكونها شرطي العالم ومهندس التجارة العالمية، وحتى المدافعة عن القيم العالمية.
في الوقت ذاته ازدادت جرأة الدول الأخرى التي تزايدت قوتها، باتت أكثر قدرة على تجاهل القواعد التي لم تعجبها، وفي بعض الأحيان وضعت بعضها بنفسها، وهذا هو عالم “جي زيرو”، عالم غير قطبي بدون قادة عالميين، وفقا لمجلة “فورين بوليسي” الأمريكية.
وكان لهذا الركود الجيوسياسي -حسب المجلة- ثلاثة أشياء نجمت عن غياب هيكل عالمي يتماشى مع ميزان القوى الأساسي:
أولاً: لم تنضم روسيا إلى النظام الدولي الذي يقوده الغرب، وأصبحت روسيا الآن كقوة عظمى سابقة تخوض حالة تدهور، غاضبة للغاية وتعتبر الغرب خصمها الأساسي على المسرح العالمي، وسواء كان اللوم في ذلك يقع على عاتق الولايات المتحدة وحلفائها أو على موسكو، فإن الحقيقة هي أن هذا هو ما نحن عليه الآن.
ثانيا: قامت الولايات المتحدة بضم الصين إلى المؤسسات التي تقودها واشنطن، معتقدة أنه كلما أصبح الصينيون أكثر تكاملاً وثراءً وقوة سيصبحون أيضًا أكثر قربا لواشنطن، لكن الدلائل تشير إلى أن الصينيين والأمريكيين ليسوا مستعدين لقبول ذلك.
ثالثاً: تجاهلت الولايات المتحدة وحلفاؤها عشرات الملايين من مواطنيهم الذين شعروا بأنهم تخلفوا عن الركب بسبب العولمة، وازدادت مظالمهم بسبب عدم المساواة في الأجور، وتحول التركيبة السكانية وسياسات الهوية، والاستقطاب من تقنيات الإعلام الجديدة، بعد عقود من الإهمال الحميد أصبح معظم هؤلاء المواطنين غير واثقين من حكوماتهم والديمقراطية نفسها، مما جعل قادتهم أقل قدرة أو رغبة في القيادة.
أزمات الركود الجيوسياسي
وترى المجلة أن الأزمات الجيوسياسية التي نعيشها اليوم، الحرب في أوكرانيا والمواجهة حول تايوان والتوترات النووية مع إيران وكوريا الشمالية، يرجع حوالي 90% منها بشكل مباشر أو غير مباشر إلى الركود الجيوسياسي الناجم عن هذه القضايا الثلاث.
وبعبارة أخرى، فإن الأزمات لا تتعلق بالقادة الأفراد، بل هي سمة هيكلية لمشهدنا الجيوسياسي.
رغم ذلك فإن فترات الركود الجيوسياسي لن تدوم إلى الأبد، والنظام العالمي القادم شيء مختلف تماماً عما اعتدنا عليه.
وبحسب المجلة، لم نعد نعيش في عالم أحادي القطب أو ثنائي القطب أو متعدد الأقطاب، بل أنظمة عالمية متعددة، منفصلة ولكنها متداخلة.
فرغم كون الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي يمكنها إرسال جنود وبحارة وعتاد عسكري إلى كل ركن من أركان العالم، لكن القوة العسكرية لا تسمح لواشنطن بوضع قواعد للاقتصاد العالمي، لأن النظام الاقتصادي متعدد الأقطاب.
وعلى الرغم من كل الحديث عن حرب باردة جديدة تعتمد الولايات المتحدة والصين على بعضهما البعض اقتصادياً بدرجة كبيرة، حيث يتعذر فصلهما عن بعضهما البعض، ولا يزال الميزان التجاري بين البلدين آخذا في الارتفاع، ومن ثم لا يمكنك خوض حرب اقتصادية باردة إذا لم يكن هناك من يرغب في خوضها.
وفي الوقت نفسه، يعد الاتحاد الأوروبي أكبر سوق مشتركة في العالم، وهو قادر على وضع القواعد والمعايير التي يجب على الأمريكيين والصينيين والآخرين قبولها كثمن للتعامل معها، لا تزال اليابان قوة اقتصادية عالمية، كما ينمو اقتصاد الهند بسرعة، وينمو معها تأثيرها على المسرح العالمي.
نظام بثلاثة رؤوس
هذان النظامان (الأمني والاقتصادي) العالميان اللذان نراهما بالفعل، ولكن هناك نظام ثالث سريع الظهور سيكون أكثر تأثيرا من الأنظمة الأخرى، النظام الرقمي، فعلى عكس أي نظام جيوسياسي آخر في الماضي والحاضر فإن الجهات الفاعلة المهيمنة التي تضع القواعد وتمارس القوة لهذا النظام ليست الحكومات، بل شركات التكنولوجيا.
فلولا شركات التكنولوجيا الغربية التي تمكنت في الأيام الأولى من العملية الروسية -من صد الهجمات الإلكترونية الروسية والسماح للقادة الأوكرانيين بالتواصل مع جنودهم في الخطوط الأمامية- لكانت روسيا قد أطاحت بكييف تماماً في غضون أسابيع، ويمكن القول إن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ما كان ليظل في السلطة اليوم لولا شركات التكنولوجيا وقوتها في النظام الرقمي الجديد.
ترى المجلة أن شركات التكنولوجيا تتمتع بقدر هائل من القوة، لدرجة أنها أصبحت لاعباً جيوسياسياً في حد ذاتها، وتتحكم هذه الشركات بالفعل في جوانب المجتمع والاقتصاد والأمن القومي التي كانت لفترة طويلة حكراً حصرياً على الدولة، تؤثر في قراراتهم الخاصة بشكل مباشر على سبل العيش والتفاعلات وحتى أنماط التفكير لمليارات الأشخاص في جميع أنحاء العالم، وهو ما قد يجعلها القوة العظمى الجديدة.
المصدر: وكالات