دخلت تركيا موجة من التضخم المفرط ابتداء من نوفمبر / تشرين الثان عام ٢٠٢١، عندما قفزت مستوياته باستمرار من حدود ٢١٪ لتلامس معدلات ٨٠٪ خلال الشهر الجار، أغسطس/أب ٢٠٢٢، لتسجل ليس فقط أعلى معدلات في ٢٤ عامًا، بل أطول موجة ارتفاعات منذ أزمة الليرة التركية الخانقة في أوائل سنوات القرن الحالي.
ولا يتوقع لموجة الارتفاعات الحالية أن تنحصر في أي وقتًا قريب، ليس فقط بسبب الارتفاعات المتوالية في أسعار المواد الأولية وخصوصًا من الغذاء والطاقة، بل كذلك بسبب استمرار رفع الفيدرالي الأمريكي مستويات الفائدة لتصل في الوقت الحالي عند ٢٫٥٪ مع توقع وصولها بحلول نهاية العام لمستويات قد تقارب ال ٤٪ وفقًا لتوقعات صندوق النقد الدولي، وأعضاء لجنة السياسة النقدية أنفسهم، والذين عقدوا العزم على استمرار الرفع للسيطرة على التضخم بغض النظر عما يحدث في الأسواق الصاعدة، ومنها تركيا.
الاقتصاد التركي يواجه إذن ضغوطًا مزدوجة من جانبي السوق، فالأسعار ترتفع بفعل الأزمة الروسية الأوكرانية، والضغوط على سلاسل الإمداد، واختناقات الموانئ، وارتفاع تكلفة الشحن، من الجانب الآخر شح الدولار بفعل أسعار الفائدة المرتفعة وما تسفر عنه من تدفقات نقدية لخارج الاقتصادات النامية، ويتحالف معها غياب شهية الاستثمار بسبب سحب عدم اليقين الكثيفة التي تلف الاقتصاد العالمي.
الضغوط من الجانبين أسفرت عن تضخم في مجموعة النقل والمواصلات على مؤشر أسعار المستهلكين التركي بمستويات ١١٩٫١١٪، وصاحبها ارتفاع في مجموعة الغذاء والمشروبات غير الكحولية بمعدل ٩٤٪، فيما جاءت مجموعة الاتصالات كأقل المجموعات ارتفاعًا بنسبة ٢٥٫٧٪.
ضغوط التضخم لا تؤثر فقط على القدرة الشرائية للمستهلكين فتدفعهم لخفض مشترياتهم، بما يخفض إنتاجية الأعمال ويدفعها للتخلي عن العمال، الذين تنخفض مستويات دخولهم بالتبعية، فيتجهون إلى دورة جديدة من خفض الاستهلاك تدفع معهم مزيدًا من الأعمال للتخلي عن مزيد من العمال، بما يؤدي في النهاية إلى خفض معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، بل في حالة تركيا ينعكس على صادراتها، رغم ما قد يشكله انخفاض العملة التركية من حافز للتصدير.
يحدث هذا التأثير العكسي، بسبب وضع تركيا في الاقتصاد العالمي كمصنع، يستورد مدخلات الإنتاج من الخارج ليضيف إليها القيمة مع إجراء عمليات المعالجة عليها ليعاود تصديرها من جديد، الأمر الذي يعطل هذه الصادرات إذا ما ارتفعت تكلفة القيمة المضافة، وهو ما يكابده الاقتصاد التركي في الوقت الحالي، وسيتطور مع الوقت بسبب ارتفاع تكلفة العمالة، المدفوعة بارتفاع التضخم، وارتفاع الأجور خاصة مع قيام الرئيس التركي برفع الحد الأدنى للأجور مؤخرًا.
انخفاض الصادرات التركية سيؤثر على ميزان المدفوعات ويقلل بالتبعية معدلات تدفق الدولار للداخل، ما يضيف مزيدًا من الأعباء على الاحتياط النقدي الذي بلغ أدنى معدلاته على الإطلاق منذ عام ٢٠٠٠ إذا ما قرن بعدد أشهر الواردات التي يمكنه توفيرها وذلك عند أقل من ٤أشهر.
التأثيرات السلبية للتضخم ستزداد سواء بسبب السياسة النقدية التركية المحكومة بتوجهات الرئيس التركي ضد الفائدة والتي تدفع في اتجاه جعل مستويات الفائدة التركية الحقيقية سلبية، مما يجعل الاستثمارات في أدوات الدين الحكومية تفقد جاذبيتها مع كل ارتفاع للتضخم.
يضاف لذلك الأعباء التي ستتراكم على الموازنة العامة التركية بسبب أداة ضمان سعر صرف الليرة التي ألزم بها الرئيس التركي الحكومة وهي ضمان سعر صرف الليرة للمودعين بها في البنوك التركية، بما يعني أن كل ارتفاع في سعر صرف الدولار، يلزم الحكومة التركية بدفع فارق أكبر للمودعين لتعويضهم عن انخفاض الليرة بالإضافة إلى الفائدة التي يدفعها النظام المصرفي.
الاقتصاد التركي إذن على حافة ما يطلق عليه دائرة الشر التي تبدو كشل مخروطي معكوس لأسفل، تبدأ تأثيراته في دائرة واسعة ومع توالي تأثيرات ورادات الفعل عليه ينزلق الاقتصاد أعمق في اتجاه قاع المخروط حتي يقبع مخنوق في جوفه، الأمر مسألة وقت قبل الإنهيار مالم تتدخل الحكومة التركية بتعديل سياسته النقدية، أو للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي.