نشر مركز المستقبل للدراسات تحليلا اقتصادياً عن السياسة النقدية التركية وانعكاساتها على المشهد الداخلي التركي، حيث شهدت تركيا ارتباكاً في عملية صنع القرار المتعلق بالسياسة النقدية على مدار السنوات الماضية، وهو ما انعكس في حركة الإقالات التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمحافظي البنك المركزي وبعض نوابهم، لرفضه سياساتهم المتعلقة بسعر الفائدة وكيفية إدارة السياسة النقدية بشكل عام.
ا لكن هذه الإقالات لم تسفر عن تحسن في وضع الاقتصاد، خاصة وأن السياسات النقدية لم تشهد تغيراً ملموساً كما كان يأمل أردوغان، ويدلل على ذلك أن سبب إقالة ناجي اقبال كان رفع سعر الفائدة من 17 إلى 19% في 18 مارس 2021، أى قبل إقالته بيومين، حيث كان الهدف من القرار هو احتواء معدل التضخم والحفاظ على سعر صرف الليرة، إلا أن المحافظ الجديد شهاب كافجي أوغلو أبقى على سعر الفائدة دون تغيير حتى الوقت الراهن، الأمر الذي دفع أردوغان للتأكيد، في مطلع يونيو الجاري (في حديث مع قناة TRT الإخبارية)، على أن بلاده بحاجة إلى خفض أسعار الفائدة وأنه تحدث إلى محافظ البنك المركزي بهذا الشأن، مما أدى إلى انخفاض الليرة لمستويات قياسية جديدة مقابل الدولار، لتصل إلى 8.88 ليرة للدولار.
ثم أشار المقال إلى أنه كان لافتاً أن تقلبات سعر الصرف كان أحد الأسباب التي دفعت وكالة “موديز”، في 5 يونيو الجاري، إلى عدم تغيير تصنيفها ونظرتها المستقبلية السلبية لاقتصاد تركيا والتي كانت قد حددتها في سبتمبر الماضي، حيث خفّضت التصنيف الائتماني لتركيا من “بي1” إلى “بي2″، مع نظرة مستقبلية سلبية. وتوازى ذلك مع إعلان وكالة “فيتش” أن هناك مخاطر عديدة تفرض ضغوطاً على البنوك التركية، يتمثل أبرزها في تقلبات سعر الصرف، وجائحة كورونا.
تداعيات عديدة:
ثم أشار التقرير إلى أن ارتباك السياسة النقدية لم ينعكس على الوضع المالي للدولة فحسب، بل ارتبط بانتقادات سياسية من جانب قوى المعارضة بسبب عدم قدرة الحكومة على احتواء التراجع في قيمة الليرة، حيث اتُهِمت الأخيرة بإهدار 128 مليار دولار خلال 8 شهور، خلال فترة تولي صهر الرئيس بيرات ألبيرق وزارة الخزانة والمالية في البلاد، بسبب قرار رفع أسعار الفائدة كمحاولة لتثبيت سعر صرف الليرة، وتصاعدت الدعوة إلى توضيح أوجه صرف ذلك المبلغ. وقد جاء رد الرئيس أردوغان على تلك الاتهامات في 21 أبريل الماضي، بالإشارة إلى أنه تم إنفاق 168 مليار دولار خلال عامين من احتياطي النقد الأجنبي لتمويل عجز الحساب الجاري، وتلبية الطلب على العملات الأجنبية والذهب من المستثمرين المحليين.
تراجع ملحوظ:
رغم الأرقام الرسمية التي ينشرها البنك المركزي، والتي تدل على تحسن وضع احتياطي النقد الأجنبي، إلا أن هناك مؤشرات أخرى تؤكد وجود تراجع في قدرة الدولة على الاستفادة منه، وهو ما يبرزه تراجع صافي احتياطات النقد الأجنبي NIR، والذي يعد قياساً للرقم الحقيقي الذي يمكن للدولة الاستفادة منه، بعد خصم التزامات الدولة قصيرة الأجل. إضافة إلى ما سبق، تكشف بيانات البنك المركزي عدم القدرة على احتواء ارتفاع معدل التضخم، وعدم تحقيقها المستهدف منذ تولي أردوغان منصب الرئاسة في عام 2014.
ووفقاً لبيانات المركزي الأخيرة، فقد بلغ معدل التضخم في مايو 2021 نحو 16.59%، وبالتالي قرار أردوغان بشأن تخفيض سعر الفائدة لن يؤدي إلا إلى مزيد من ارتفاعه، وهو القرار الذي يمكن اعتباره سياسياً بالأساس، حيث أن خفض سعر الفائدة له أبعاد إيجابية فيما يتعلق بعملية التيسير النقدي ومحاولة تنشيط السوق الداخلية، وهو ما قد يلقى قبولاً شعبياً، إلا أن له ارتدادات اقتصادية حادة قد تسفر عن قفزة في الأسعار داخلياً، وبالتالي سيزداد معدل التضخم بشكل كبير، وفقاً لتوقعات المراقبين، كما أن هذا قد يسفر عن مزيد من تراجع قيمة الليرة، لأن الطلب عليها سينخفض بسبب تراجع إقبال المستمرين الأجانب على أدوات الدين التركية، وبالتالي تزداد احتمالات تخارج العديد من الاستثمارات الأجنبية، مما سيزيد الضغط على العملة الأجنبية داخلياً.
اتجاه محتمل:
أشار التقرير أنه لا يستبعد أن يرضخ محافظ البنك المركزي لضغوط أردوغان عبر تخفيض سعر الفائدة بشكل تدريجي، بحيث لا تتعدى نسبة التخفيض الـ1% كل مرة، وذلك لتلافى أي صدمات قد تنجم عن التخفيض بشكل كبير، ويعزز من تلك المقاربة وجود تحسن طفيف في احتياطي النقد الأجنبي (ارتفع من 88 إلى 92.5 مليار دولار خلال الفترة أبريل/ مايو 2021 وفق البنك المركزي التركي)، وبوادر التعافي الاقتصادي الذي يشهده العالم من تداعيات جائحة كورونا، والذي يصاحبه التخفيف من قيود الإغلاق، وهى التي ستسفر في المقابل عن زيادة موارد الدولة من النقد الأجنبي بسبب تزايد الصادرات التركية، وتوافد السياح الأجانب على تركيا، الأمر الذي قد يترتب عليه حدوث توازن في استقرار الوضع المالي في الداخل التركي.
واختتم التقرير بأنه لاتزال تركيا تشهد ارتباكاً في مؤشراتها الاقتصادية، خاصة تلك المتعلقة بالسياسة النقدية، بسبب تناقضها مع رؤية الحكومة الرامية لتحفيز الاقتصاد التركي، والتي تمثل عنصراً أساسياً في الحفاظ على شعبية وشرعية النظام الحالي، وحتى بالرغم من حرص الحكومة على التماهي مع السياسة التي يتبناها الرئيس، إلا أنه من الواضح أن ذلك ليس كافياً لتلبية تطلعات الأخير، مما يدفعه لمواصلة ضغوطه على البنك المركزي لفرض رؤيته في إدارة السياسة النقدية، وهى التي لن تستقيم بفعل تلك التدخلات، والتي يتوقع عدم انتهاءها على المدى المنظور، ولكن في الوقت نفسه قد يحدث حد أدنى من التفاهم على كيفية إدارة السياسة النقدية بشكل يحقق التوازن ما بين الاستقرار الاقتصادي وشعبية أردوغان.