خسارة معركة السردية:أظهر النزاع الأخير في غزة أن المواقف تجاه إسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية تشهد تغييرًا.

نشرت الباحثة هـ. أ. هيليير بحثاً على منصة مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط يتعلق بالمواقف الأمريكية الداخلية الجديدة، والتي ظهرت بعد الإعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة حيث قالت إن العنف الذي يطبع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي غير متكافئ إطلاقًا. فقد أسفرت العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة بدءًا من 10 أيار/مايو عن مقتل ما لا يقل عن 213 مدنيًا فلسطينيًا، من ضمنهم 61 طفلًا، بعد إطلاق حماس عشرات الصواريخ على الأراضي الإسرائيلية. أما حصيلة الضحايا الإسرائيليين فبلغت 10 قتلى. وتشكّل هذه الأرقام دليلًا آخر على التفاوت الواضح في هذا الصراع على مر الزمن.
ثم أشارت أنه وعلى مدى عقود، أبدت ردود فعل النخبة السياسية ووسائل الإعلام الكبرى في الولايات المتحدة عمومًا تأييدًا قويًا لإسرائيل. ونادرًا ما وجّهت مراكز الأبحاث أو الأحزاب السياسية أو وسائل الإعلام الأميركية انتقادات لإسرائيل في السابق. لكن يبدو أن الأمر بات مختلفًا اليوم.

فعندما احتدمت الجولة الأخيرة من الصراع في غزة، بدا جليًا أن السردية داخل التيار السائد في الولايات المتحدة تشهدت تغييرًا مطّردًا، إذ جاهر سياسيون أميركيون من اليسار التقدمي للحزب الديمقراطي أكثر من السابق بتأييدهم للفلسطينيين. وأصدر عضوا مجلس الشيوخ، السناتور الديمقراطي كريس مورفي والسناتور الجمهوري تود يونغ بيانًا ممهورًا بعشرات التواقيع من الحزبين، يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار. وخلال النزاع، حاول عددٌ من الديمقراطيين في الكونغرس، في خطوة استثنائية، تقديم مقترح لدفع إدارة بايدن إلى تأجيل صفقة بيع واشنطن قنابل دقيقة التوجيه بقيمة 735 مليون دولار إلى إسرائيل. وسعى عضو مجلس الشيوخ بيرني ساندرز أيضًا في هذا الاتجاه في 20 أيار/مايو، إذ قدّم مشروع قرار يرمي إلى منع إتمام صفقة بيع الأسلحة. صحيحٌ أن أن هاتين الخطوتين باءتا بالفشل، إلا أنهما أفسحتا المجال أمام نقاش لم يكن واردًا في السابق.
كذلك، أعرب عددٌ كبير من الصحافيين والإعلاميين مثل علي فلشي وجون أوليفر ومهدي حسن وغيرهم عن دعمهم الكامل لحقوق الفلسطينيين، مستخدمين عبارات مثل “الأبارتايد” و”جرائم الحرب” و”التطهير العرقي”. وكل هذه المصطلحات تنطبق في سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بيد أنها نادرًا ما كانت تُطلق جهارًا في الولايات المتحدة بهذا الشكل. وللمرة الأولى ربما، باتت مسألة أوضاع فلسطينيي الداخل الذين يتعرّضون إلى تمييز شديد، جزءًا من النقاش العام.
يُضاف إلى ذلك أن رياح التغيير تعصف منذ فترة في مراكز الأبحاث والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان. ففي 19 أيار/مايو، أصدرت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي تقريرًا رائدًا يدعو الولايات المتحدة إلى اعتماد “نهج قائم على الحقوق” في صلب سياساتها حيال القدس والضفة الغربية وقطاع غزة. وبعد أسبوع تقريبًا، أدانت منظمة هيومن رايتس ووتش، على خطى منظمة بتسيلم الحقوقية الإسرائيلية، مسؤولين إسرائيليين بارتكاب جرائم الفصل العنصري والاضطهاد.
ثم أضافت الكاتبة أنه وفي هذا الإطار، يعبّر شعار “حياة الفلسطينيين مهمة” خير تعبير عن هذا التغيير، ليس بمعناه الحرفي وحسب، بل أيضًا من حيث العلاقة التي تجمعه بالحركة التي استعار اسمها. فقد أعادت حركة “حياة السود مهمة” التأكيد على أهمية الحريات المدنية في أوساط التقدميين الأميركيين. وبات الحزب الديمقراطي، ولا سيما الفئات الشابة فيه، أكثر ميلًا نحو يسار الطيف السياسي. وعلى الرغم من تاريخ الرئيس جو بايدن كسياسي وسطي، عكس برنامجه الانتخابي إلى حدٍّ بعيد مواقف تتبنّاها شخصيات تمثّل الجناح اليساري من الحزب الديمقراطي، مثل عضوي مجلس الشيوخ ساندرز وإليزابيث وارن، اللذين عبّرا صراحةً عن دعمهما للفلسطينيين. وحذا حذوهما عدد من الشخصيات العامة والمشاهير، بمن فيهم الممثلين جون كوزاك وناتالي بورتمان ومارك رافالو.

. في الواقع، أن يكون المرء “تقدميًا في شتى القضايا إلا تلك المتعلقة بفلسطين” أمرٌ يتطلب الكثير من الحيل اللفظية والألاعيب الأخلاقية، لذا عمدت شخصيات تقدّمية مثل مارك لامونت هيل وميتشيل بليتنيك، حتى قبل التصعيد الأخير، إلى الضغط على الجناح التقدّمي من أجل إعادة النظر في كيفية التعامل مع القضية الفلسطينية.
وفي 19 أيار/مايو، تحدّث السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل مارتن إنديك في مقابلة أجراها معه مهدي حسن عن أن التوجّه الداعم لإسرائيل “يتراجع” منذ سنوات، فيما يزداد زخم المشاعر المؤيدة للفلسطينيين، لافتًا إلى أن هذا التباين “يسبّب انقسامات في صفوف الحزب الديمقراطي”. وعلى ضوء ذلك، سيكون صعبًا على “التقدميين إلا حيال فلسطين” التمسك برصيدهم التقدمي في المعسكرين التقدمي والديمقراطي. ويُعتبر ذلك من النتائج غير المقصودة لحركة “حياة السود مهمة”، إذ لا يستطيع المرء أن يدعو إلى المساءلة، ومعارضة التمييز، ورفض عنف الدولة غير المبرَّر داخل بلاده، فيما يغضّ الطرف عن هذه الانتهاكات في الخارج.
وأشارت الكاتبة إلى أنه لا بدّ أيضًا من تسليط الضوء على نقطة مهمة، هي أن السياسة الأميركية الرسمية بقيت طوال فترة التصعيد الأخير مؤيدة بشدّة لإسرائيل. فقد تدخلت إدارة بايدن أكثر من مرة في الأمم المتحدة لإحباط محاولات مجلس الأمن الساعية للتوصّل إلى وقفٍ لإطلاق النار، وأيّدت مرارًا وتكرارًا ما تعتبره حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، من دون أن تشدّد على ضرورة ممارسة هذا الحق ضمن إطار القانون الدولي. وأدّى ذلك، كما هو متوقّع، إلى تشجيع إسرائيل على استخدام القوة بشكل غير متكافئ، ما أسفر عن سقوط عدد كبير من القتلى في صفوف المدنيين. وفي المقابل، لم تأتِ الإدارة الأميركية إلى ذكر حقّ الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم ضدّ الغارات الإسرائيلية، ولم تندّد بقتل المدنيين الفلسطينيين، بل اكتفت بالإدلاء بتصريحات غريبة ومبهمة عندما تمّ الضغط عليها بشأن هذه المسألة.
إضافةً إلى ذلك، لا تزال مقاربة “كلا الجانبين”، المتّبعة في السياسة الخارجية، تتصدّر معظم النقاشات العامة، على الرغم من أن النزاع لا يمثّل بتاتًا حالة تكافؤ في القوى. فالواقع ببساطة هو أن إسرائيل تحتل الأراضي الفلسطينية، في حين أن الفلسطينيين لا يحتلّون أراضٍ إسرائيلية، ناهيك عن أن عدد القتلى الفلسطينيين فاق بعشرين ضعفًا عدد القتلى الإسرائيليين. وبالتالي، ما من تكافؤ في هذا النزاع.

واختتمت الباحثة قولها بأنه إجمالاً لم يطرأ أي تغيير على السياسة الأميركية الراهنة، بيد أن النقاش يتغيّر حتمًا في الولايات المتحدة. فمنذ أيام قليلة، وجّه أكثر من 500 موظف في إدارة الرئيس بايدن رسالة مفتوحة إلى الرئيس، يطالبونه فيها باتّباع مقاربة أكثر توازنًا حيال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لذا، لم يعد السؤال مطروحًا حول احتمال تبدّل السياسات الأميركية تجاه النزاع، إذ باتت الإجابة على ذلك معروفة، بل السؤال هو متى سيطرأ هذا التغيير. علاوةً على ذلك، لن يؤدي تنامي نفوذ اليمين المتطرّف في السياسات الإسرائيلية سوى إلى تفاقم حدّة الانقسامات بين إسرائيل واليسار الأميركي، بما في ذلك داخل الحزب الديمقراطي.
حياة الفلسطينيين هي، بالتأكيد، مهمة. وأن يأتي الإقرار بهذا الواقع متأخرًا خيرٌ من ألا يأتي أبدًا.