أعلنت السلطات الألمانية، في 7 كانون الأول/ديسمبر 2022، عن تفكيك شبكة من أنصار جماعة يمينية متطرفة كانت تهدف للاستيلاء على السلطة عبر تنفيذ هجوم مسلح على مبنى البرلمان الألماني والسيطرة عليه، مؤكدة أنها عملية يتم التخطيط لها منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2021. وأعرب الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، عن قلقه البالغ من وصول أفكار المتطرفين إلى هذا المستوى غير المسبوق داخلياً. فيما وصفت وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فيزر، النشطاء الذين كانوا وراء هذا العمل بأنهم “متحدون في كراهيتهم للديمقراطية وللدولة الألمانية”. وقد أثارت هذه المحاولة الانقلابية على السلطة في ألمانيا، جدلاً كبيراً حول الحركة المتورطة فيها، ودوافعها، وكذلك التداعيات الناجمة عنها خلال الفترة المقبلة.
تفاصيل الواقعة:
حسب المعلومات الصادرة عن الأجهزة الحكومية الرسمية في ألمانيا، يمكن تلخيص تفاصيل هذا المخطط الانقلابي في النقاط التالية:
1- المتهمون: أُلقي القبض على 25 من أصل 52 مطلوباً من اليمينيين المتطرفين في عملية تمشيط واسعة شملت جميع أنحاء ألمانيا، أغلبهم من كبار السن، ويُشتبه في تشكيلهم مجموعة منظمة، ومن قادتهم المفترضين:
– هاينريش الثالث عشر، يبلغ من العمر 71 عاماً، وهو سليل إحدى العائلات النبيلة من ولاية تورينغن في شرق ألمانيا، وتعطيه أصول عائلته تأثيراً في أوساط المتطرفين.
– مقدم سابق في الجيش الألماني يُدعى “روديغر”، وكان قائداً لكتيبة من المظليين في التسعينيات.
– قاضية تُدعى “بيرجيت مالساك وينكمان”، وهي نائبة سابقة عن “حزب البديل من أجل ألمانيا” AFD اليميني المتطرف بين عامي 2017 و2021، وتم تسليمها حقيبة العدل في “حكومة المتآمرين”، على حد وصف السلطات الألمانية.
كما أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الألمانية، آرني كولاتس، أن هناك جنوداً آخرين متورطين، أحدهم ينتمي إلى قيادة القوات الخاصة.
2- توجهاتهم الفكرية: أعلن المُدعي العام الاتحادي الألماني، بيتر فرانك، أن المشاركين في عملية التخطيط للانقلاب هم من أتباع الأفكار الأيديولوجية لمجموعة “كيو أنون” QAnon التي تؤمن بنظرية المؤامرة، وهم من المنتمين إلى تيار “مواطني الرايخ” Reichsbürger؛ وهو تيار ظهر في الثمانينيات ولا يعترف بشرعية الدولة الألمانية الحالية، ويرفض أنصاره دفع الضرائب أو الانصياع للشرطة، ويُقدر عددهم الإجمالي بحوالي 20 ألفاً، من بينهم مجموعة صغيرة تُقدر بحوالي ألف شخص أصبحت منظمة للغاية منذ نهاية عام 2021، حيث تمتلك هيكلاً تنظيمياً مركزياً وجناحاً عسكرياً لدى أعضائه تراخيص بامتلاك الأسلحة.
3- خطة الانقلاب: وفقاً لبيان صحفي صادر عن الادعاء الألماني، فإن المُلاحقِين استعدوا بشكل ملموس للدخول إلى مقر البرلمان في برلين (البوندستاغ) مع مجموعة مسلحة صغيرة، في سيناريو شبيه بالهجوم على مبنى الكابيتول من قِبل أنصار الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب. كما أنهم كانوا يتدربون على التعامل مع الأسلحة، وعُقدت أربعة اجتماعات على الأقل خلال الصيف لتوسيع شبكة أعضاء هذه المجموعة، واستهدفت جهود التجنيد بشكل خاص أفراداً من الشرطة والجيش الألماني، وكان الفرع العسكري للخلية مسؤولاً عن شراء الأسلحة وتنظيم التدريب.
أبعاد مختلفة:
تداخلت أبعاد متعددة في محاولة تحليل توقيت وأهداف هذه المحاولة الانقلابية في ألمانيا، ومن أهمها ما يلي:
1- التلويح بتورط روسي في المخطط الانقلابي: أشارت الصحافة الألمانية إلى وجود شريكة داخل الشبكة الانقلابية مواطنة روسية تُدعى “فيتاليا”؛ وهي صديقة لهاينريش الثالث عشر، حيث حاولت العمل كوسيط لتنسيق الاتصال بالسلطات الروسية للحصول على دعم محتمل. بيد أن الكرملين نفى بشدة أي “تدخل روسي” في هذا الملف، كما نفت السفارة الروسية في برلين أي تورط في هذه الأنشطة الإرهابية. ولاحقاً علق المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، بأنه لا يمكن مناقشة أي تدخل روسي من أي نوع.
2- استعراض أجهزة الأمن الألمانية قوتها: تم حشد حوالي 3000 عنصر أمني لتنفيذ عملية إحباط الانقلاب، وأُجريت أكثر من 130 عملية تفتيش ومداهمة، في إجراء وصفته وسائل الإعلام الألمانية بأنه أكبر عملية للشرطة على الإطلاق في البلاد. كما نُفذت حملة الاعتقالات في 11 ولاية ألمانية من أصل 16، وشملت عمليات التفتيش ثكنات تابعة للجيش في جنوب غرب ألمانيا، لإظهار أن النظام الأمني في البلاد قوي جداً، وأن الأجهزة الاستخباراتية تعمل بكفاءة، وذلك بعد الانتقادات التي طالتها جراء عدم حصولها على معلومات مسبقة حول مخطط تفجير خطي أنابيب الغاز “نورد ستريم 1 و”2 وعدم التوصل إلى الفاعلين.
3- قوة تأثير سرديات “نظرية المؤامرة”: يؤمن “مواطنو الرايخ” بأن “دولة عميقة” تحكم ألمانيا بالفعل، في تماثل مع أفكار حركة QAnon التي ظهرت في الولايات المتحدة وتعتبر أن هناك استهدافاً للرجل الأبيض، والتي ربطتها الكثير من التحليلات بعملية اقتحام مبنى الكابيتول في كانون الثاني/يناير 2021. وكان أنصار تيار “الرايخسبورغ” حاولوا دخول البرلمان الألماني في آب/أغسطس 2020، اعتراضاً على القيود الصحية المفروضة أثناء جائحة كورونا والتي تم استغلال النقمة عليها لجذب المزيد من المؤيدين لتيارهم. كما قام أنصار هذا التيار بتخويف بعض الأطباء الذين يقومون بالتطعيم ضد كوفيد-19، ويُنسب إلى بعضهم محاولة التخطيط لخطف وزير الصحة الألماني. وكان مكتب المدعي العام الألماني قد أشار الى أن المعتقلين متحدون برفض عميق لمؤسسات الدولة وللنظام الليبرالي والديمقراطي لجمهورية ألمانيا الاتحادية، الأمر الذي جعلهم مع مرور الوقت يميلون نحو تقويضها من خلال العنف.
4- استحضار الماضي الإمبراطوري لألمانيا: يعتقد بعض مؤيدي “الرايخسبورغ” أو “مواطني الرايخ” أن شكل ألمانيا الحقيقي كان موجوداً بين عامي 1871 و1918، بينما يعتبر آخرون أن دستور جمهورية فايمار بين الحربين العالميتين هو دستور ألمانيا الحقيقية، فيما تركز فئة ثالثة على اعتبار أن الحدود الشرعية للأراضي الألمانية هي الحدود التي تم تثبيتها في عام 1937. ويرفض معظم “الرايخسبورغ” الاعتراف بشرعية الدولة الديمقراطية الحالية في ألمانيا، ويهدفون إلى العودة إلى الشكل الإمبراطوري السابق، لكنهم يفتقرون إلى رؤية موحدة حول النظام البديل المفضل، هل هو شبيه بالملكية الدستورية للقيصر فيلهلم الثاني، أم التجربة الديمقراطية لجمهورية فايمار، أم تجربة الحكم النازية؟ وتكشف محاولة الانقلاب الأخيرة واختيار هاينريش الثالث عشر كرأس للسلطة، الحنين إلى استعادة ملكية دستورية بأسلوب حكم قيصري.
5- استحضار انقلاب “بير هول” في عام 1923: أعادت المحاولة الفاشلة للانقلاب الحالي في ألمانيا مع اقتراب عام 2023، ذكريات الانقلاب الذي نظمه حزب العمال الاشتراكي الوطني الألماني (الحزب النازي) قبل نحو مائة عام، وتحديداً في 1923. وعلى الرغم من أن ذلك الانقلاب تم قمعه بنجاح من قِبل الشرطة آنذاك، فإنه غيّر مسار التاريخ الألماني، لأنه جذب انتباه الشعب الألماني نحو أدولف هتلر. ففي الوقت الذي كانت فيه ألمانيا تواجه تضخماً مرتفعاً، حاول هتلر الإطاحة بجمهورية فايمار، وعلى الرغم من فشل محاولة انقلابه، فقد نما حزبه النازي بشكل ملحوظ بعدها.
تداعيات قادمة:
يمكن أن يكون لعملية الانقلاب المُحبَطة في ألمانيا، العديد من الانعكاسات في المستقبل القريب، ويمكن توضيح أبرزها في التالي:
1- تشديد الرقابة على المتطرفين ومنع حيازتهم السلاح: انتشرت دعوات لمراقبة أنصار اليمين المتطرف لضمان التزامهم بالقانون، وخرجت وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فيسر، لتشدد على أنه يجب على الحكومة أن تفعل ما هو أفضل لمحاربة عنف اليمين المتطرف، ولمنع حيازته الأسلحة وبصفة خاصة داخل الجيش والشرطة. وتنتقد المنظمات والجمعيات التي تحارب اليمين المتطرف، عملية الرقابة السابقة، لأنها لم تكن تجري بشكل كافٍ، حيث نجح المتطرفون من خلالها في تجاوز الخط الأحمر منذ فترة طويلة بالرغم من الكم الهائل من التحذيرات. وتبرز مطالبات حالياً لمنح الحق لجهاز المخابرات في التنصت على المكالمات الهاتفية، وتعريض موظفي القطاع العام، لا سيما المعلمين الذين يقومون بالدعاية والترويج لأفكار هذا التيار، لإجراءات تأديبية، ومنع توظيف من يُشتبه في انتمائهم إليه.
2- تزايد محاولات تهديد النظام العام في ألمانيا من خلال العنف: في السنوات الأخيرة، صنفت السلطات الألمانية أعمال العنف من اليمين المتطرف باعتبارها التهديد الأول للنظام العام. ويرفض “الرايخسبورغ” جمهورية ألمانيا الاتحادية وهياكلها الديمقراطية، ويعتقد أغلبهم أن الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، الذين هزموا ألمانيا النازية في عام 1945، ما زالوا يحكمونها في الخفاء، وأن ألمانيا ليست دولة ذات سيادة.
وتشير المحاولة الانقلابية التي تم الكشف عنها مؤخراً، إلى أن بعض أتباع “الرايخسبورغ” بدأوا الانخراط في العنف السياسي، خصوصاً أنه قد سبقتها أعمال عنف أخرى مثل حادثة قتل ضابط شرطة خلال عملية مداهمة لعضو في هذه الحركة بتهمة حيازة الأسلحة في عام 2016. كما وقع هجوم على حانة في منطقة قريبة من فرانكفورت في عام 2020، مخلفاً 9 قتلى. كذلك تم اغتيال أحد الناشطين في مجال مساعدة اللاجئين في حزيران/يونيو 2019، بالإضافة إلى تسجيل عشرات الهجمات على منازل طالبي اللجوء بين عامي 2015 و2020. أيضاً، شهد عام 2020 تفكيك شبكة لـ “النازيين الجدد” داخل الجيش الألماني.
3- تراجع شعبية “حزب البديل لأجل ألمانيا”: على عكس هذا الحزب اليميني الشعبوي الذي قام بتكييف خطابه ليتناسب مع الجو العام السياسي السائد والمقبول في ألمانيا، يتجاهل بعض أتباع “الرايخسبورغ” تماماً القوانين الألمانية الحالية، كما يُعرفون بمناهضتهم للديمقراطية. ولطالما حاول “حزب البديل من أجل ألمانيا” نفي أي صلات له بحركة “الرايخسبورغ”، إلا أن وزارة الداخلية الألمانية أكدت وجود روابط بين الطرفين في بعض المناطق. وربما سيكون لضلوع نائبة سابقة عن “حزب البديل من أجل ألمانيا” في عملية الانقلاب الأخيرة، انعكاسات سلبية على شعبية هذا الحزب، الذي كان يميل إلى محاولة الاستفادة من المناخ السياسي المُستاء من أداء حكومة المستشار الألماني الحالي، أولاف شولتز، مع وصول التضخم إلى أكثر من 10%. وقد تنبهت زعيمة حزب البديل السابقة، فراوكي بيتري، إلى هذه المشكلة، ومن ثمّ أكدت أن حزبها يدين محاولات الانقلاب ويعارضها بشدة.
4- الخوف من تمدد التطرف السياسي في أوروبا: لا تقتصر حدود تهديدات اليمين المتطرف على ألمانيا فقط، فقد رُصدت محاولات اللجوء إلى هذا النوع من السلوكيات في دول مجاورة أو قريبة في أوروبا مثل بلجيكا، ولكن على نطاق أضيق. وتُرجع بعض التحليلات أسباب انتشار هذه المجموعات التي تنتهج العنف في العديد من الدول الأوروبية، إلى الصعود الحالي لتيارات التطرف السياسي في أوروبا التي تشكك في مصداقية الأنظمة الديمقراطية، وتتشدد في مسألة رفض الهجرة.
ختاماً، فإنه على الرغم من وصف محاولة الانقلاب الأخيرة في ألمانيا بالعمل الهامشي، يبقى التخوف من أن تروق أفكار تيار “الرايخسبورغ” لجمهور أوسع من الساخطين جراء الأزمة الاقتصادية في ألمانيا الناتجة عن الحرب الروسية – الأوكرانية، ومن قبلها أزمة كورونا، أو أن تنجح مجموعات مسلحة من هذا التيار في الارتباط بمنظمات سياسية أكبر نفوذاً، مما سيجعلها أكثر خطورة، وربما هذا هو السبب في أن السلطات الألمانية أخذت هذا الأمر على محمل الجد.
المصدر: مركز المستقبل