أما وقد فاز اليمين الإيطالي بالانتخابات وسيطر على مجلسَي البرلمان، وصارت زعيمة «أخوة إيطاليا» جورجيا ميلوني (45 عاماً) المرشحة الطبيعية لرئاسة الوزراء بما أن حزبها هو طليعة التحالف اليميني، تكثر التساؤلات عن انعكاسات ذلك على أوروبا ومستقبل الاتحاد الأوروبي، خصوصاً أن الاتجاه اليميني المتشدد يكبر في القارة في ظل الحرب الأوكرانية وتفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية.
ليست إيطاليا رقماً عادياً في المعادلة الأوروبية، فهي صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي بعد ألمانيا وفرنسا، ويزيدها «أهمية» أن دينها العام هائل يساوي 150 في المائة من ناتجها الإجمالي البالغ 1.88 تريليون دولار. وهذه مشكلة لم تنجح الحكومات المتعاقبة في حلها، إذ ما انفكت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي تتصاعد من 100% عام 1990 إلى ما هي عليه حالياً.
ولعلّ ما يعكس عمق المأزق الإيطالي هو «هروب» ماريو دراغي منقذ منطقة اليورو من تداعيات أزمة 2008 – 2010 من المعمعة، بتخليه عن رئاسة الحكومة في بلاده، بعدما لمس أن الهدوء السياسي مستحيل في بلاد المشهد «المجزّأ»، وأن الضربات الأقوى لا تأتي من المعارضة، بل من القوى السياسية المشاركة في الحكومة.
يفترض المتشائمون والمتوجسّون من تعاظم التيارات اليمينية (بعد انتخابات السويد خصوصاً) أن إيطاليا ستعتمد سياسة عدائية تجاه الاتحاد الأوروبي، وستبتعد في موقفها من الحرب الأوكرانية عن الاصطفاف الغربي الواسع، وستتشدد في مسألة الهجرة خصوصاً أنها تشكل البوابة المتوسطية الرئيسية للهاربين من الجنوب…
في 13 تشرين الأول/أكتوبر يلتئم مجلسا الشيوخ والنواب وينتخبان رئيسيهما، ليبدأ رئيس الجمهورية سيرجيو ماتاريلا المشاورات السياسية لتكليف من يؤلف حكومة جديدة ستكون الرقم 70 منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على أن تكون السيدة ميلوني كما هو متوقّع رئيس الوزراء الرقم 30 والمرأة الأولى التي تتولى هذا المنصب الشائك.
وعود براغماتية… ولكن
ثمة من يقول إن جورجيا ميلوني هي أول زعيم من اليمين المتطرف سيحكم إيطاليا منذ بنيتو موسوليني الذي لا تخفي السيدة الشقراء إعجابها به. وفي المقابل ثمة من يؤكد أن واقع اليوم مختلف عما كان عليه الأمر قبل الحرب العالمية الثانية، وأن البراغماتية ستكون سيدة الموقف.
«أنا جورجيا. أنا امرأة، أنا أم (لإبنة وحيدة)، أنا إيطالية، أنا مسيحية». كلمات قالتها ميلوني خلال لقاء سياسي شعبي عام 2019 في روما، المدينة التي ولدت فيها.
بعد انتخابات 25 أيلول/سبتمبر وعدت السيدة نفسها بأنها ستمارس الحكم «من أجل الجميع»، وقالت: «وجّه الإيطاليون رسالة واضحة لمصلحة حكومة يمينية بقيادة أخوة إيطاليا»، يدعمها بقوة حزبان يمينيان رئيسيان هما «الرابطة» بقيادة الوزير السابق ماتيو سالفيني، و«فورتسا إيطاليا» بقيادة سيلفيو برلوسكوني الغنيّ عن التعريف، علماً أن الحزبين لم يحققا نتائج جيدة في الانتخابات واتكلا على الرافعة السياسية التي شكلها حزب «أخوة إيطاليا» قافزاً من 4% من الأصوات قبل أربع سنوات إلى 26.2% حالياً، ومستفيداً بالتأكيد من بقائه خارج حكومة الوحدة الوطنية التي انهارت في تموز/يوليو الماضي.
ببراغماتية متوقعة، خففت جورجيا ميلوني أخيراً لهجتها العدائية تجاه الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي الذي لطالما اعتبرت أنه يعمل لمصلحة ألمانيا أولاً، وأكدت دعمها موقف أوكرانيا في الحرب.
وكان في صلب البرنامج الانتخابي للتحالف اليميني تأكيد الانتماء الأوروبي والأطلسي لإيطاليا، بعيداً عن الإنعزالية التي يتهم اليساريون اليمين الإيطالي بانتهاجها.
لكن ميلوني نفسها قالت قبل أشهر في لقاء مع حزب «فوكس» اليميني الإسباني: «نعم لحدود آمنة، لا للهجرات الجماعية… لا للمؤسسات المالية الدولية الكبيرة… لا للبيروقراطيين في بروكسل». وهذا الكلام، معطوفاً على موقف ميلوني من شؤون اجتماعية عديدة، مناقض تماماً لسياسات الاتحاد الأوروبي، ومشابه لمواقف مؤيدي «بريكست» في بريطانيا، وعقائد أحزاب اليمين المتطرف في مختلف الدول الأوروبية، ومتناغم مع خطاب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي غالباً ما يغرّد خارج سرب الاتحاد الأوروبي.
الصداع الداخلي
بالإضافة إلى السياسة الخارجية التي يجب الانتظار لتتبلور معالمها في العهد اليميني الآتي، يجدر التساؤل عن النهج الذي ستعتمده ميلوني في مواجهة المعضلة الاقتصادية. فكيف ستتصدى لمشكلة تعاظم الدين العام، هي التي وعدت بخفض الضرائب؟ ومن أين تموّل الحكومة العجز في الموازنة إذا خفضت الضريبة في وقت يتجه الاقتصاد نحو الركود بخطى «ثابتة».
المأزق الكبير الآخر هو الارتفاع الفلكي لأسعار الطاقة، والكل يعلم ما سيحمله الخريف والشتاء من صعاب على هذا الصعيد.
كان ماريو دراغي قد خصص 66 مليار يورو هذا العام للإعفاءات الضريبية ودعم الشركات التي تستهلك الكثير من الطاقة والأسر الفقيرة. غير أن هذا الاحتياط ينتهي في نوفمبر (تشرين الثاني)، وتمديده شهراً لتبدأ ميلوني ولايتها بهدوء يتطلب أكثر من 4.5 مليار يورو. وإذا كان تأمين هذا المبلغ ممكناً، فإن على الحكومة الإيطالية أن تقر حزمة مماثلة – أو ربما أكبر – للعام 2023 بالنظر إلى الآفاق القاتمة للاقتصاد محلياً وقارّياً وعالمياً.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أحد الوعود الانتخابية لليمين كان إلغاء مفاعيل قانون صدر عام 2011 ورفع سن التقاعد إلى 67 عاماً، وبالتالي جعل هذه السن 64، وهو ما يرتّب أعباء إضافية على الخزينة العامة من حيث تأمين رواتب للمتقاعدين.
يكفي لإدراك ما تواجهه الحكومة المقبلة اقتصادياً الإشارة إلى استطلاع أجرته وكالة «بلومبرغ» وشمل 34 خبيراً اقتصادياً خلصوا إلى أن الاقتصاد الإيطالي سينمو بنسبة 0.4٪ فقط العام المقبل، انخفاضاً من 3.3٪ عام 2022. وهذا يعني فقداناً لوظائف (نسبة البطالة حالياً هي 8.1% من القوة العاملة) ومتاعب معيشية مختلفة.
واللافت، بل العجيب، أن العنصر الإيجابي الوحيد في ما يخص المالية العامة هو ارتفاع العائدات الضريبية (ضريبة القيمة المضافة خصوصاً) «بفضل» التضخم الذي تخطى 9%.
في النهاية، ينبغي النظر إلى المشهد الإيطالي كجزء واقعي من المشهد الأوروبي، فعلى أرض هذه القارة العجوز تدور حرب عالمية لا بد أن تكون لها تداعيات على جوارها وعلى العالم أجمع. وبالتالي يغدو لزاماً على قادة الاتحاد الأوروبي، لا سيما ألمانيا وفرنسا، التعقّل وأخذ هواجس اليمينيين والمحافظين في الاعتبار، بهدف صَون الحد الأدنى من تماسك الاتحاد، وإلا انفرط العقد لتصبح أوروبا مجدداً مسرحاً لصراع مرير مفتوح على كل الاتجاهات.
المصدر: وكالات