شكل الغزو الروسي لأوكرانيا مصدر خطر كبير على الاقتصاد التركي بسبب الهشاشة المالية للبلاد واعتمادها الكبير على النفط والغاز المستورد، وهو ما يفسر الاتجاه التركي نحو تجنب المواجهة مع روسيا في تلك الحرب، لكن ليس ذلك هو مصدر الخطر الوحيد حيث إن تركيا منخرطة بشكل كبير في العديد من الصراعات الإقليمية هذا إلى جانب علاقاتها الأوروبية الضعيفة. تسببت السياسات الخارجية التركية والسياسات الاقتصادية غير التقليدية محليا في انخفاض ثقة المستثمرين، وانخفاض قيمة الليرة التركية، في الوقت الذي تعاني فيه تركيا من احتياجات تمويلية كبيرة خارجيا، وقطاع خاص مثقل بالديون من العملات الأجنبية وهو ما يزيد من مخاطر الاستقلال المالي ويضع الحكومة التركية بين المطرقة والسندان بين المشاكل الاقتصادية المحلية والعلاقات الخارجية الهشة.
تضخم عارم
معدلات التضخم في تركيا كبيرة للغاية خاصة في الغذاء والطاقة، حيث ارتفع معدل تضخم الغذاء التركي علي أساس سنوي بنسبة 93.1 في المائة (أبريل/نيسان 2022 مقابل أبريل /نيسان2021)، وارتفعت أسعار الطاقة على أساس سنوي بنسبة 121 في المائة خاصة وأن الحكومة التركية قد أقدمت على تحريك كبير في أسعار الغاز والكهرباء خلال عام 2022 بسبب ارتفاعات أسعار الطاقة عالميا وانخفاض قيمة العملة التركية، لكن تلك المعدلات المرتفعة من التضخم ليست على مستوى الطلب فقط حيث ارتفع مؤشر عوامل تكلفة المنتجين بنسبة 132 في المائة على أساس سنوي. انخفض مؤشر مديري المشتريات التصنيعي إلى منطقة الانكماش في مارس /آذار وسط الحرب الروسية الأوكرانية، ارتفع التضخم بشكل كبير مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية كان لذلك التضخم أثر كبير على انخفاض الأسر حيث تضاءلت القدرة الشرائية للمواطنين، لكن ليست تلك هي النهاية. حيث إن ارتفاع أسعار المنتجين بشكل كبير في مارس/آذار 2022 ترتب عليه نقل جزء كبير من تلك التكاليف إلى المستهلكين، وهو ما أثر على قدرات الأفراد علي الإنفاق بشكل كبير. لكن وعلى الرغم من تلك المعدلات المرتفعة من التضخم 70 في المائة على أساس سنوي في أبريل/نيسان وحوالي 7.25 في المائة على أساس شهري، مع كون الغذاء المساهم الأساسي في تلك الارتفاعات السعرية، فقد أبقي البنك المركزي التركي معدلات الفائدة دون تغيير وهو ما يمهد الطريق إلى ارتفاعات سعرية أخرى في الأشهر القادمة.
الشكل 1: قيمة الليرة التركية مقابل الدولار الامريكي
الشكل 2: معدل التضخم في تركيا – Trading Economics
قطاع الطاقة
قطاع الطاقة هو أحد أهم القطاعات الرئيسية في كل البلدان إذ تؤثر أسعار الطاقة على أسعار تكلفة مدخلات الإنتاج في حال تم استخدام تلك الطاقة في التصنيع كمواد خام، أو لتوليد كهرباء في المصانع وعلى المواطنين والمستهلكين في حال أن تم استهلاك الكهرباء في المنازل أو أن تم استهلاك الطاقة كوقود للمحطات. تشكل واردات تركيا من الطاقة أهمية استراتيجية لدى تركيا إذ استوردت في عام 2021 مواد بترولية وغاز بقيمة 50.7 مليار دولار، وهو ما يمثل 18.7 في المائة من إجمالي وارداتها البالغة 271.1 مليار دولار. ونظرا لتلك الأهمية الاستراتيجية فقد كانت الطاقة في تركيا ضمن حزمة الدعم الاجتماعي الذي طبقتها تركيا في عام جائجة كوفيد – 19.
الشكل 3: المصدر: Trading Economics – واردات تركيا في عام 2021
في وقت سابق (يناير/ كانون الثاني 2022) رفعت هيئة تنظيم سوق الطاقة التركية (EMRA) أسعار الكهرباء لعام 2022 بنسبة 50 في المائة للأسر ذات الطلب المنخفض وبنسبة 100 في المائة للمستخدمين التجاريين ذوي الطلب المرتفع. بالإضافة إلى ذلك، فقد رفعت مجموعة الغاز المملوكة للدولة (تركيا) BOTAŞ أسعار الغاز الطبيعي بنسبة 25 في المائة للاستخدام السكني و50 في المائة للاستخدام الصناعي، لكن أسعار الغاز المستخدمة في توليد الكهرباء لأغراض الصناعية فقد ارتفعت بنسبة 15 في المائة.
الشكل 4: شكل يوضح تطور سعر الوقود في تركيا، المصدر Trading Economics
لكن وعلى الرغم من كل تلك الارتفاعات لا زالت تقدم تركيا دعما لقطاع الطاقة بها حيث تخطط البلاد لأنفاق مبلغ 100 مليار ليرة تركية (6.5 مليارات يورو) على دعم فواتير الطاقة لمواطنيها خلال عام 2022، وهو ما يوفر حزمة من الدعم بحوالي 50 في المائة للغاز الطبيعي، و25 في المائة تقريبا للكهرباء، وستستفيد من تلك الحزمة من الدعم 2.1 مليون اسرة تستهلك كهرباء بأقل من 150 كليو وات. يأتي مبلغ الدعم الموجة للطاقة في العام 2022 اقل بنسبة 40 المائة من ذلك الذي تم توجهه لدعم الطاقة في عام 2021، حيث بلغ دعم الطاقة في عام 2021مبلغ 10.7 مليارات يورو، تم توجيه 5.2 مليارات يورو لدعم الغاز الطبيعي، 1.3 مليار يورو لدعم الكهرباء، 4.2 مليارات يورو لدعم الوقود في عام 2021.
الشكل 5: سعر لتر الوقود في المنطقة، Global Petrol Prices
خلاصة القول: يمر الاقتصاد التركي بواحدة من أشد الأزمات التاريخية، حيث ينهار سعر عملتها، وترتفع معدلات البطالة (11.5 في المائة ويتسع العجز الحكومي (2.5 في المائة)، لكن الأخطر في تلك المؤشرات هي الارتفاعات الكبيرة في معدلات التضخم والتي بلغت ذروتها منذ أكثر من 24 عاما، مع وقوف البنك المركزي التركي مكفوف الأيدي أمام التعامل مع تلك المعدلات المرتفعة من التضخم وهو ما يرسل إشارات سلبية للمستثمرين أن الحكومة التركية غير جادة في التعامل مع السياسات الاقتصادية ومعدلات التضخم، فهل يمكن للاقتصاد التركي عبور الوضع الراهن عالميا والذي رسمت ملامحه دولتين تتحاربان في شرق أوروبا!؟.