يُعلمُنا عالم الفيزياء الأشهر ألبرت اينشتاين (Albert Einstein) – الذي عاش في الفترة (1879 – 1955) – أنه “لو كان لديه ساعة واحدة لإنقاذ العالم، فسيقضي خمساً وخمسين دقيقة للتعرف على المشكلة وتوضيحها، وخمس دقائق فقط للتوصل إلى الحل”، الأمر الذي يُعلى أهمية طرح أفضل الأسئلة؛ كونها حجر الزاوية لبلوغ الإجابات الأكثر فعالية.
وينطبق ذلك النهج على اللحظات الفارقة بين عامي 2023 و2024؛ إذ تتعالى التساؤلات بشأن آفاق نمو الاقتصاد العالمي خلال عام 2024، وما إذا كان سيواجه ركوداً أم انتعاشاً؟ وتخلص تحليلات عدة إلى إجابة واحدة، تتمثَّل في أن نتائج عام 2023 وما قبله تقودنا إلى عام جديد أكثر تباطؤاً، ومن ثم يُصبح التساؤل الأكثر أهمية – بعد تأكُد تباطؤ أدائه غير المأمول- هو كيفية إحداث تحوُّل في مسار النمو الاقتصادي العالمي ليكون مُستداماً.
ملامح تباطؤ الأداء:
وفقاً لأحدث تقرير صادر عن “المنتدى الاقتصادي العالمي” (WEF) World Economic Forum، يرى ستة من بين كل عشرة من كبار الاقتصاديين الذين شاركوا في استقصاء رأي للمنتدى أن أداء الاقتصاد العالمي جاء هزيلاً خلال عام 2023، ويتوقعون أن يصبح أكثر ضعفاً خلال عام 2024، كما يُوضح الشكل رقم (1)، الأمر الذي يتوافق مع تقديرات مؤسسات دولية عدة.
إذ يتوقع صندوق النقد الدولي تباطؤاً في نمو الاقتصاد العالمي من 3% عام 2023 إلى 2.9% عام 2024. في حين تتنبأ مؤسسة “كونفرنس بورد” (Conference Board) بأن ينخفض نمو الاقتصاد العالمي بحِدة أكبر من 3.2% إلى 2.6% خلال نفس الفترة.
وتُشير تقديرات كبرى المؤسسات المالية العالمية إلى أن معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي العالمي سيتراوح بين 1.9% (سيتي جروب) و2.8% (مورجان ستانلي)، كما يوضح الشكل رقم (2).
وعلى الرغم من أن هذه التقديرات تُؤيد فرضية تجنب الاقتصاد العالمي الانزلاق في هاوية “الكساد” – تلك الحالة التي يشهد فيها انخفاضاً كبيراً في نشاطه مُقاساً بنمو الناتج المحلي الإجمالي، ومُسجلاً قيماً سالبة لفصلين مُتتاليين- فإن الأداء المُتوقع لا يُلبي بأية حال الغاية الأولى للهدف الإنمائي الثامن ضمن أهداف الألفية الصادرة عن الأمم المُتحدة، المعني بالعمل اللائق ونمو الاقتصاد. وتلك الغاية تصبو إلى الحفاظ على متوسط نصيب الفرد من النمو الاقتصادي وفقاً للظروف الوطنية، وخاصةً الحفاظ على نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي بنسبة 7% على الأقل في أقل البلدان نمواً.
إرهاصات عام جديد:
يُعد التنبؤ بتباطؤ الاقتصاد العالمي خلال عام 2024 – الذي يتم اختزاله في معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي- نِتاجاً لعلاقات متشابكة شديدة التعقُّد بين عوامل جيوسياسية، واقتصادية، واجتماعية وبيئية عدة، تتأثر فيما بينها وتؤثر في مساراته. ويأتي في مُقدمة هذه العوامل ما يلي:
1- فرص اقتصادية سانحة: ثمة مكاسب اقتصادية مُتوقعة نتيجة تعويل النشاط الاقتصادي بدرجة أكبر على الذكاء الاصطناعي، في ظل تقديرات مؤسسة “ماكينزي” بأن “الذكاء الصناعي التوليدي” (Generative AI) يُمكن أن يُضيف ما يُعادل 2.6 إلى 4.4 تريليون دولار أمريكي سنوياً للاقتصاد العالمي. كذلك من المُرجح أن تبدأ البنوك المركزية الرئيسة – خاصةً الفدرالي الأمريكي– في اتباع سياسات التخفيف النقدي (Monetary Easing) خلال عام 2024، بعد أن أثّر التشديد النقدي الذي تبنته خلال الفترة الماضية في مُجمل الاقتصاد العالمي، الأمر الذي سيُمثل منعطفاً حاسماً في تعافي النشاط الاقتصادي العالمي.
2- حروب اقتصادية: من المُرجح أن تتنامى تدابير الأمن الاقتصادي لمواجهة الصدمات المُحتملة في السوق العالمية بهدف خفض الاعتماد على المُنافسين الجيوستراتيجيين، وتعزيز القدرة التنافسية للصناعة الوطنية، ودعم الاستقرار السياسي والاجتماعي على المستوى المحلي. وتأتي في مقدمة هذه الصدمات، الحرب الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، التي من المُرجح أن تتزايد حدة ودينامية، نتيجة دفع الذكاء الاصطناعي لساحة الصراع؛ إذ تستخدم واشنطن قيود التصدير والاستثمار – بالتعاون مع بعض الحُلفاء- للحد من قدرة الشركات الصينية على النفاذ لأشباه المُوصلات اللازمة لتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي.
3- اضطراب سلاسل التوريد: تحمل بدايات عام 2024 على عاتقها أزمات تنعكس حتماً على تدفقات التجارة الخارجية واضطراب سلاسل التوريد، ومن ثم نمو الاقتصاد العالمي. ومثالاً على ذلك، أزمة تجنب معظم شركات الشحن المرور بالبحر الأحمر عقب هجمات الحوثيين على عدد منها، ما أدى إلى تأثر حركة النقل بقناة السويس التي تسهم بحوالي 12% من حركة الشحن العالمية. ليس هذا فحسب، لكن اتخاذ الناقلات لمسار رأس الرجاء الصالح يؤدي إلى إطالة رحلة الشحن من آسيا إلى شمال أوروبا وشرق البحر المتوسط بحوالي 10 أيام، وارتفاع تكلفة وقود الرحلة الواحدة ذهاباً وإياباً بحوالي مليون دولار أمريكي لكل رحلة وفقاً لتقديرات منصة الشحن (Xeneta).
4- ضعف الاستقرار السياسي: ثمة تراجع في الحُكم الرشيد في مناطق هشة عدة على مستوى العالم، وتدهور شرعية بعض الحكومات، وتآكل مصداقية مؤسسات النظام العالمي. وتزخر الأجندة العالمية خلال عام 2024 باستحقاقات انتخابية رئاسية وبرلمانية في بلدان تسهم بنحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، يُلخص الجدول رقم (1) أهمها. بطبيعة الحال، تدفع الانتخابات، الحكومات ومؤسسات الأعمال إلى حالة من الترقب والانتظار، وتزيد من درجة عدم اليقين بشأن السياسات العامة لترتفع بحوالي 13% في المتوسط خلال الشهر الذي ستنعقد فيه والشهر السابق عليها. هذا وكلما زادت درجة الاستقطاب السياسي، ارتفعت النسبة التي قد تصل إلى 28% في حال الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
5- تأزم البيئة الجيوسياسية: تعج الساحة الدولية بأزمات متراكمة ومتزامنة تتعمق حدتها بمرور الزمن؛ إذ يبدأ عام 2024 مُثقلاً بنحو 183 صراعاً شهدها العالم خلال عام 2023، وذلك وفقاً للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (International Institute for Strategic Studies, IISS)، ما يُمثل أكبر عدد من الصراعات المُسلحة خلال عام واحد منذ ثلاثين عاماً تقريباً. واللافت للانتباه أن غالبية الصراعات الدائرة تتسم بصعوبة الحل، في ظل انتشار جماعات مسلحة غير حكومية وتدخل أطراف خارجية ذات دوافع أخرى، مما يجعل المشهد أكثر تعقداً. وتأتي في مقدمة هذه الصراعات، الحرب الروسية الأوكرانية التي فقد الاقتصاد العالمي بسببها 2.8 تريليون دولار أمريكي خلال عام 2023، وفقاً لتقديرات مُنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. كما تصاعد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وما تزال حرب اليمن، والاقتتال الدائر في السودان، والصراعات في ليبيا وسوريا، قائمة.
6- كساد عالمي بيئي: تؤثر أحداث الطقس القاسي التي لا تتبعها هرولة للحد من مُسببات التغير المناخي خلال مدى زمني قصير، سلباً في أداء الاقتصاد العالمي. وحذر “معهد سويس ري” (Swiss Re Institute) من أن الاقتصاد العالمي قد يخسر ما يصل إلى 18% من الناتج الإجمالي بحلول 2050 إذا لم يتم اتخاذ إجراءات لكبح آثار التغير المناخي. وفي حال تلبية أهداف اتفاق باريس للمناخ بحلول عام 2030 – ما يُعد أمراً بعيد المنال حتى الآن نتيجة تعثر تنفيذ ما تم التعهد به سابقاً من قِبل الدول المُتقدمة- تنخفض نسبة الفقد إلى 4%. جدير بالذكر أن التكلفة التي تحملها العالم على مدار العقدين الماضيين نتيجة أحداث الطقس القاسي قد سجلت 143 مليار دولار أمريكي سنوياً في المتوسط.
مسارات التحول:
يُمكن القول إن التطورات الجيوسياسية والأمنية والسياسية أصبحت تطغى على المشهد الاقتصادي المُتأزم، بدرجة أعلى مما كانت عليه خلال عام 2023. فالحروب والصراعات تُغذي حالة عدم اليقين والارتفاعات غير المُبررة اقتصادياً في أسعار النفط والغذاء والأسمدة والسلع الرئيسية، واضطرابات سلاسل التوريد وتدفقات التجارة الخارجية. الأمر الذي يزيد من معدلات التضخم وينعكس على معدلات الفائدة الرامية إلى كبح جماحه. ذلك المزيج الذي يُقوِّض القدرات الاستهلاكية والاستثمارية والتكوين الرأسمالي، ويحد من آفاق نمو الاقتصاد العالمي.
هنا يثور تساؤل مهم حول ما إذا كان الاقتصاد العالمي سيحقق انتعاشاً مأمولاً إذا ما تلاشت تلك العوامل الخارجة عنه والمؤثرة فيه؟ وسوف تأتي الإجابة بالنفي، إذ إن الأمر سيتطلب تضافر مسارات عدة لترقية درجة جاهزية النظام الاقتصادي العالمي لاستعادة عافيته، من بينها الآتي:
1- تعزيز معدلات الإنتاجية، التي تُعد مقياساً لكفاءة الأفراد والشركات والاقتصادات وحكومات الدول في استخدام الموارد لإنتاج سلع وخدمات، لبلوغ أقصى استفادة من الفوائد الاقتصادية خلال فترة زمنية ما. ففي حين تشير التوقعات إلى تحقيق إنتاجية العامل لنمو متواضع خلال عام 2023 – كما يوضح الجدول رقم (2) – ما يزال أداؤها مُخيباً للآمال، ما يُشكل رياحاً مُعاكسة خطرة على النمو العالمي خلال السنوات المقبلة.
الأمر الذي يتماشى مع أطروحة بول كروغمان (Paul Krugman) – أستاذ الاقتصاد والشؤون الدولية بجامعة برينستون الأمريكية- حين ذكر أن “الإنتاجية ليست كل شيء، ولكنها على المدى الزمني الطويل تُعد كل شيء تقريباً، إذ إن قدرة أي بلد على تحسين مستوى معيشته بمرور الوقت تعتمد بشكل كامل تقريباً على قدرته على رفع إنتاجية كل عامل”. ولما كان المستقبل يبدأ الآن، فينبغي لبلدان العالم إحياء مشروع وطني لتعزيز زخم الإنتاجية.
2- إعلاء مبدأ “المقياس الواحد لا يُناسب الجميع”، والمقصود بالجميع هنا بلدان وأزمنة وشعوب. فإذا كان رفع معدلات سعر الفائدة لمكافحة التضخم أداة سياسية يُمكن التعويل عليها في بلد ما في زمن ما، فقد لا تكون هذه الأداة الأكثر نجاعة في زمن “الفوكا” (VUCA)؛ ذلك المصطلح الذي يضم الأحرف الأولى لأربع سمات باللغة الإنجليزية غالبة على واقعنا المُعاش ومستقبلنا المنظور، وهي: التقلب (Volatility)، وعدم اليقين (Uncertainty)، والتعقد (Complexity)، والغموض (Ambiguity).
وينطبق الحال نفسه على جميع السياسات العامة وأدواتها، مما يستدعي إمعان التفكير في ماهية السياسات الجيدة، التي من شأنها معالجة الصعوبات الاقتصادية التي يعاني منها المواطنون ومؤسسات الأعمال، وحفز الإنتاجية لتوليد النمو وبلوغ غايات الهدف الثامن ضمن الأهداف الإنمائية للألفية، وخلق حلفاء جدد في المحيط الإقليمي والدولي، مع تأكيد دعائم الصمود والمرونة الاقتصادية.
3- توطين نهج يُعلي منطق “إدارة التحول كل يوم” ((Turnaround Management Every Day؛ في إشارة إلى الحاجة لإدخال إصلاحات مُستمرة ومتعاقبة، لأن كل شيء بحاجة إلى إصلاح دائم، وأنه لا يوجد أمر مؤكد باستثناء الحاجة إلى التعافي. وعندما يتم غرس هذا المنطق في أرجاء الجهاز البيروقراطي وقطاع الأعمال وبيئات الأفراد، سوف يتمكن الاقتصاد من “الوثب” (LEAP)؛ ذلك المصطلح الذي يضم الأحرف الأولى لأربع كلمات باللغة الإنجليزية تُدلل على استراتيجيات مواجهة عالم “الفوكا”، وهي: التحرر (Liberal) استعداداً للتكيف مع العالم الجديد، والامتلاء بالطاقة (Exuberant) بشغف وتفاؤل لصنع مستقبل أفضل، وخفة الحركة (Agility) لإتقان فن التغيير ببراعة والتعلم المستمر، والشراكة (Partnership) في زمن تُعد فيه الشراكات والتحالفات الجيدة مُقوِّماً رئيساً للعبور إلى مستقبل أفضل.
ختاماً، على الرغم من أن مؤشرات الأداء ومرئيات الخبراء تنسج صورة قاتمة لعام 2024 وما يليه، فإنه يتعين علينا اعتبار ذلك دافعاً وجيهاً لطرح تساؤلات أفضل من منظور مستقبلي والبحث عن إجابات أفضل وفق منهج “التقصي المُستند إلى التقدير” (Appreciative Inquiry)، لنتمكن من صنع حضارة وازدهار اقتصادي قائم على كل ما توصل إليه البشر من علوم وإنسانيات.
المصدر: مركز المستقبل