منذ تصاعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، ولجوء إسرائيل لسياسة اغتيال خصومها في لبنان وسوريا، وتهديد قواعد الاشتباك المستقرة على الحدود اللبنانية الإسرائيلية؛ تكرر طرح سؤال مفاده، هل ستبقى المواجهة العسكرية بين الجيش الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية منحصرة في غزة، أم يمكن أن يتسع مداها وتتحول إلى حرب إقليمية واسعة؟
وازداد إلحاح طرح هذا السؤال بعد قيام الطيران الإسرائيلي بغارة على مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، في الأول من إبريل 2024، أدت إلى مقتل سبعة من ضباط الحرس الثوري الإيراني، أبرزهم الجنرال محمد رضا زاهدي، أحد قادة فيلق القدس؛ ثم فشل مجلس الأمن في إصدار بيان صاغته روسيا لإدانة هذا الهجوم بسبب رفض الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا.
وأعقب ذلك توقيف الحرس الثوري الإيراني لسفينة مرتبطة بإسرائيل بالقرب من مضيق هرمز، واقتيادها إلى المياه الإقليمية الإيرانية يوم 13 إبريل الجاري، ثم توجيه إيران ضربة جوية بمئات الطائرات المُسيَّرة وعشرات الصواريخ ضد إسرائيل. وهو ما أثار جدلاً واسعاً بشأن دلالات هذا الهجوم الإيراني المباشر، والرد الإسرائيلي المُتوقع عليه، وهل يقود إلى نشوب حرب إقليمية؟
حسابات الأطراف:
المحك في الإجابة عن السؤال السابق، هو تعريف ما هو المقصود بالحرب الإقليمية، وإلى ماذا يشير المستخدمون له. فإذا كان التعبير يشير إلى الحرب التي تتعدد جبهاتها، فإن هذا الأمر قائم بالفعل. فإلى جانب الجبهة الفلسطينية، نشطت جبهات أخرى من خلال حزب الله اللبناني على الحدود الشمالية لإسرائيل، وجماعة الحوثيين باليمن عبر هجماتها ضد السفن في البحر الأحمر، والفصائل العسكرية المؤيدة لإيران في سوريا والعراق.
أما إذا كان المقصود انخراط جيوش دول إقليمية أخرى في القتال على غرار ما حدث في حرب 1967 التي شاركت فيها جيوش دول مصر وسوريا والأردن وإسرائيل، أو حرب 1973 التي شملت مصر وسوريا وإسرائيل، فإن ذلك لم يحدث بعد.
وفي هذا الإطار، فإن احتمال نشوب حرب إقليمية بهذا المعنى هو أمر مُستبعد؛ وذلك لأسباب تتعلق بالدول المنخرطة فعلاً في الحرب، وأخرى بتلك التي ترفض توسيع مجالها وتحذر من الانزلاق إلى حرب إقليمية واسعة.
إذا بدأنا بالدول المنخرطة في الحرب الحالية، وهي إسرائيل وإيران على المستوى الإقليمي، والولايات المتحدة من خلال مساندتها الكاملة لتل أبيب؛ فإن الحكومة الإسرائيلية الراهنة برئاسة بنيامين نتنياهو هي الطرف الوحيد الذي يرى مصلحته في توسيع الحرب وإطالة أجلها. ويمكن تفسير هذا الموقف، بأن توسيع الحرب سوف يؤدي إلى حشد وزيادة التأييد الأمريكي والغربي لإسرائيل، ووقف الانتقادات المتزايدة لها، وتوحيد الرأي العام الداخلي فيها وراء هذه الحكومة اليمينية المتطرفة التي تهددها الانقسامات الداخلية والمظاهرات الحاشدة التي تدعو إلى استقالتها وإجراء انتخابات مُبكرة. أضف إلى ذلك، أن حرباً أكبر تشارك فيها أطراف أخرى قد تشغل اهتمام الرأي العام العالمي عما يحدث في غزة والضفة الغربية؛ مما قد يسهل مهمة إسرائيل في اجتياح مدينة رفح. وبالفعل، فإن الهجوم الإيراني ربما وفر لإسرائيل تلك المزايا.
أما إيران والولايات المتحدة فإنهما لا يرغبان وليس لديهما مصلحة في توسيع الحرب. فمع أن العداء لإسرائيل ومواجهتها ربما يعطي لطهران تأييداً وزخما شعبياً، فإن القيادة الإيرانية تدرك مخاطر وتداعيات اندلاع حرب مفتوحة مع إسرائيل؛ بسبب طبيعة التوازن العسكري القائم بين البلدين، وحجم التأييد العسكري الأمريكي اللامحدود لإسرائيل، والاختراقات الاستخباراتية والأمنية الإسرائيلية في الداخل الإيراني. ولذلك، فقد حرصت طهران دوماً على ضبط سلوكها السياسي والعسكري بما لا يدفع الأمور نحو “حافة الهاوية”.
وبالتالي حرصت إيران على إبقاء “شعرة معاوية” مع الولايات المتحدة والتواصل معها، من خلال وسطاء كسلطنة عُمان وسويسرا. فعلى سبيل المثال، نقلت طهران رسالة إلى واشنطن بقُرب موعد ضربتها ضد إسرائيل، وأكدت لها، وفقاً لتصريحات وزير خارجيتها حسين أمير عبداللهيان، يوم 14 إبريل الجاري، أنها (أي إيران) لا تبحث عن استهداف القواعد الأمريكية في المنطقة وتوسيع دائرة الصراع. ومؤدى ذلك، أن إيران لا تتصرف بشكل عشوائي أو حماسي، ولكن تقوم بردود فعل منضبطة ومحسوبة؛ بما يحقق لها مصالحها لكن دون الانزلاق إلى مهاوي حرب لا تريدها.
وينطبق نفس التحليل على الولايات المتحدة التي لا تشجع نشوب حرب إقليمية؛ لأنه من شأن اندلاعها تهديد مصالحها الاقتصادية والعسكرية في المنطقة، ووضع الدول العربية الحليفة والشريكة لها في موقف حرج بسبب ضغوط الرأي العام الداخلي فيها، خاصةً أنه في مثل هذه الحرب سوف تشارك واشنطن إلى جانب إسرائيل، ليس فقط بتحريك حاملات طائرات وسفن حربية إلى شرق البحر المتوسط والبحر الأحمر، ولكن بالتنسيق العسكري المباشر في وضع الخطط وتنفيذها والمشاركة الفعلية في القتال؛ وهو ما حدث بالفعل عندما تم إنشاء مقر لعمليات الدفاع الجوي الإسرائيلية الأمريكية المشتركة، والتي شاركت في إسقاط عشرات المُسيَّرات والصواريخ الإيرانية وتدميرها وهي في طريقها إلى إسرائيل. وكتعبير عن تقدير الجيش الإسرائيلي لهذا التعاون، تفقد وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، هذا المقر، برفقة السفير الأمريكي لدى تل أبيب، جاك لو، في اليوم التالي للهجوم الإيراني.
ومن ثم، لا ترغب الإدارة الأمريكية في أن تتطور الأحداث على هذا النحو، وهي في سنة انتخابات رئاسية حرجة، ينقسم فيها الأمريكيون بشكل استقطابي، وتتقارب فرص فوز المرشحين جو بايدن ودونالد ترامب. ولذلك، سارع البيت الأبيض إلى الإعلان عن أن الرئيس بايدن، نصح رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، بعدم الرد على الضربة الإيرانية، باعتبار أنه تم تدمير 99% من المُسيَّرات والصواريخ الإيرانية وأنها فشلت في تحقيق أهدافها؛ مما يمثل انتصاراً لإسرائيل.
وإذا انتقلنا إلى بقية دول المنطقة، فإنها كلها تدعو إسرائيل وإيران إلى ضبط النفس وعدم اتخاذ ما يكون من شأنه جر المنطقة إلى حرب إقليمية. وتتعدد دوافع تلك الدول ما بين انكفاء البعض على مشكلاته وأزماته الداخلية، وتركيز البعض الآخر على التنمية الاقتصادية والارتفاع بمستوى معيشة شعوبه، والاعتقاد بأن حرباً إقليمية سوف تؤدي إلى خسارة الجميع وتهديد السلم والأمن العالمي، وأن الهدف الأولى بالتبني هو وقف الحرب على غزة، وتوفير الإمدادات الإغاثية التي يحتاج إليها أهلها، والسعي لإنشاء الدولة الفلسطينية وانضمامها إلى الأمم المتحدة وفقاً لحدود ما قبل 5 يونيو 1967.
نقطة تحول:
مثّل الهجوم الذي انطلق من الأراضي الإيرانية تحدياً استراتيجياً لإسرائيل، فقد أثبت قدرة أسلحة إيران على الوصول إلى العمق الإسرائيلي، وإصابة كل من قاعدة نيفاتيم الجوية بجنوب إسرائيل، التي انطلقت منها الطائرات التي أغارت على القنصلية الإيرانية في دمشق، وقاعدة النقب الجوية؛ مما يهدد قدرة الردع التي يعتبرها الجيش الإسرائيلي جزءاً من عقيدته العسكرية. وأكدت إيران هذا المعنى، وأن هذه العملية نقطة تحول في الصراع الإسرائيلي الإيراني، وأن مرحلة “الصبر الاستراتيجي” الذي التزمت به طهران قد انتهت، وأنها سوف تقوم بالرد على أي اعتداء إسرائيلي عليها من دون إبطاء.
وفهمت القيادة السياسية والعسكرية في تل أبيب هذا المعنى، وأن طهران تسعى لتغيير قواعد الاشتباك معها. لذلك، فمع أن الهجوم الإيراني لم يفض إلى أضرار مادية ذات حيثية، فإنه من الأرجح أن إسرائيل سوف تقوم بالرد وتوجيه ضربة لإيران، وذلك تأكيداً لقدرتها على الردع وحفاظاً على صورة جيشها كواحد من أقوى الجيوش في المنطقة، حسب تعبير بعض الجنرالات في إسرائيل. ومن الأرجح أيضاً، أن قرار توجيه الضربة قد اُتخذ لكن يبقى التوقيت ونوعية الهجوم، ويتفق غالبية المراقبين على أن الرد الإسرائيلي سوف يكون محدوداً ولكنه موجع، وسوف يركز على أهداف عسكرية إيرانية.
ختاماً، يمكن القول إن الحروب لها دورة حياة، تبدأ وتستمر من ناحية، وتخبو وتذبل من ناحية أخرى. ومن الواضح أن المواجهة الإيرانية الإسرائيلية لم تصل إلى نهايتها بعد، فهناك رد فعل إسرائيلي مُتوقع قد يعقبه انتقام إيراني، وتتطور دوامة من الأفعال وردود الأفعال. وتسعى دول المنطقة إلى النأي بنفسها عن المشاركة فيها. وبالتالي، فإن الاحتمالات عديدة ومتنوعة، وتصريحات المسؤولين في كل الدول، بما فيها إيران وإسرائيل، تؤكد أنها لا تسعى لنشوب حرب إقليمية، ولكن الأمور قد تتطور على نحو مخالف، فهل تكون النتيجة حرباً إقليمية أم فوضى إقليمية؟
المصدر: مركز المستقبل