بدأت قوات الجيش الأذربيجاني، 19 سبتمبر/أيلول الجاري، عملية أسمتها “إجراءات مكافحة الإرهاب” لاستعادة النظام الدستوري في قره باغ.
بعد مرور يوم واحد من القتال، تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بوساطة من قيادة قوات حفظ السلام الروسية، دخل حيز التنفيذ الساعة الواحدة ظهر اليوم، وأعلنت وزارة الدفاع الأذربيجانية أنه “مع الأخذ في الاعتبار نداء السكان الأرمن في قره باغ” تم التوصل إلى اتفاق لوقف عملية مكافحة الإرهاب.
فما هو تاريخ إقليم قره باغ الجبلي في منطقة القوقاز، وما الذي دفع ولا يزال يدفع الأزمة إلى الاشتعال من حين لآخر؟
تسوق أطراف النزاع من أجل قره باغ روايات من التاريخ القديم للتدليل على انتماء تلك المنطقة لها.
لقد سيطرت الإمبراطورية الروسية على تلك المنطقة التي كانت تسمى خانية قره باغ، بعد أن كانت تحت سيادة القاجاريين (فارس)، عام 1805، إلا أنها لم تنضم رسميا إلى الإمبراطورية حتى عام 1813، كنتيجة للحرب الروسية الفارسية 1804-1813، وبتوقيع معاهدة كلستان عام 1813، إبان حكم ألكسندر الأول.
تحولت الخانية السابقة، قره باغ، عام 1822، إلى مقاطعة قره باغ، ثم أصبحت عام 1840 جزءا من منطقة شوشا في منطقة قزوين، ومن عام 1846 انضمت إلى مقاطعة شيماخان التي سميت فيما بعد مقاطعة باكو عام 1859، ومن عام 1868 انضمت قره باغ إلى مقاطعة يليزافيتوبول.
في 4 يوليو 1921، وفي اجتماع المكتب القوقازي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي (البلشفي)، تقرر نقل الإقليم إلى أرمينيا. لكن، وفي اليوم التالي مباشرة، أعاد المكتب القوقازي النظر في القضية لصالح أذربيجان، “على أساس الحاجة إلى السلام الوطني بين المسلمين والأرمن”.
منذ عام 1921، كانت المنطقة جزءا من جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفيتية باعتبارها وحدة إدارية إقليمية، مع حقوق الحكم الذاتي الموسع. وفي عام 1923 حصلت قره باغ على وضع منطقة الحكم الذاتي داخل جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفيتية.
في عام 1988، بدأت حركة عامة واسعة النطاق لإعادة توحيد منطقة الحكم الذاتي قره باغ مع أرمينيا، نظرا لأن أغلبية السكان هم عرقيا من الأرمن. وفي 2 سبتمبر/أيلول 1991، أعلنت منطقة الحكم الذاتي قره باغ استقلالها عن أذربيجان تحت اسم جمهورية قره باغ (طلب ممثلو قره باغ حينها من القيادة السوفيتية الانتقال من جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفيتية إلى جمهورية أرمينيا الاشتراكية السوفيتية، دون أن يتلقوا موافقة على الطلب)، ولم يعترف أحد بهذه الجمهورية.
في 10 ديسمبر 1991، وقبل أيام قليلة من الانهيار الرسمي للاتحاد السوفيتي، أجري استفتاء على الاستقلال عن أذربيجان في قره باغ، وصوت لصالحه 99.89% من المشاركين فيه.
حرب قره باغ الأولى
من عام 1992-1994 حاولت أذربيجان السيطرة على الجمهورية المعلنة من جانب واحد، وكانت تلك عمليات عسكرية واسعة النطاق، استخدمت فيها باكو ويريفان المعدات الثقيلة والطائرات، وقد حملت تلك الأحداث عنوان “حرب قره باغ الأولى”، وقتل فيها ما يصل إلى 30 ألف شخص ما بين مقاتلين ومدنيين.
سيطرت التشكيلات الأرمنية على عدة مناطق في أذربيجان، والتي لم تكن قبل بدء الصراع جزءا من جمهورية قره باغ ذات الحكم الذاتي، وظل 15% من قره باغ تحت سيطرة باكو.
في عام 1994، اتفق الطرفان في بيشكيك على وقف إطلاق النار، وتم تجميد الصراع منذ عام 1992، بدأ مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا، الذي أصبح عام 1994 منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بالمشاركة في حل الصراع. وفي عام 1997 تم إنشاء مؤسسة الرئاسة المشتركة الثلاثية لمجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وفرنسا)، والتي عقدت فيها المفاوضات الرئيسية بشأن حل النزاع، إلا أنها لم تتوج بنتائج لما يقرب من عقدين من الزمان، ولم تشارك سلطات قره باغ في المفاوضات.
بعد الحرب، لم تعترف أي دولة باستقلال جمهورية قره باغ وعاصمتها ستيباناكيرت، بما في ذلك أرمينيا نفسها، على الرغم من أن يريفان هي التي ضمنت أمنها الاقتصادي والعسكري.
حالة الصراع في 2010
لم تخف أذربيجان أن هدف سياساتها هو استعادة وحدة أراضيها واستعادة كامل أراضي قره باغ تحت سيطرتها. وتم تسجيل مناوشات بشكل دوري على طول خط التماس، إلا أن الجانبين امتنعا عن القيام بعمليات عسكرية واسعة النطاق.
إلا أن ذلك لم يمنع اندلاع بعض الاشتباكات الكبيرة في عام 2014، ثم في أبريل/نيسان 2016، عندما تم الإبلاغ عن مقتل أكثر من 30 شخصا على الجانبين، وإصابة عشرات الأشخاص. وسميت تلك الاشتباكات بـ “حرب أبريل”.
في عام 2018، ونتيجة لما سمي بـ “الثورة المخملية”، وصل السياسي المعارض نيكول باشينيان إلى السلطة في أرمينيا. وبوصوله انتهى حكم ما يسمى بـ “عشيرة قره باغ” في جمهورية أرمينيا. حيث كان الرئيسان الثاني والثالث لأرمينيا، روبرت كوتشاريان وسيرج سركسيان من مواليد جمهورية قره باغ، وكان لهما دور نشط في الحرب من أجل استقلال قره باغ، بينما كان كوتشاريان هو أول رئيس وزراء ورئيس جمهورية قره باغ.
حرب قره باغ الثانية
بعد وصوله إلى السلطة، صرح باشينيان في غير مرة أن “آرتساخ هي أرمينيا وكفى” (آرتساخ هو الاسم الأرمني لقره باغ). وعلى الرغم من استمرار مفاوضات التسوية، اندلعت أعمال عدائية نشطة في 27 سبتمبر/أيلول 2020، تبادل فيها الطرفان الاتهامات، واستمرت حرب قره باغ الثانية 44 يوما، وانتصرت فيها أذربيجان، حيث أعادت سيطرتها على أجزاء كبيرة من الأراضي المتاخمة لقره باغ، وكذلك أجزاء من قره باغ نفسها، بما في ذلك مدينتي شوشا وهادروت.
وبموجب القرار الصادر في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، تم إدخال قوات حفظ السلام الروسية إلى مناطق قره باغ التي ظلت تحت السيطرة الأرمنية، على الرغم من أن تفويضها لم يتم تأكيده رسميا باتفاق الطرفين، وبحسب البيانات الروسية، فقد قتل في الحرب الثانية حوالي 5 آلاف شخص.
قره باغ من 2020-2023
خلال هذه السنوات الثلاث، أصبحت عدة مناطق أخرى في قره باغ وأرمينيا تحت سيطرة أذربيجان نتيجة للاشتباكات المسلحة، حيث أصبحت قره باغ، منذ ديسمبر/كانون الأول 2022، تحت الحصار فعليا. وتم إنشاء نقطة تفتيش أذربيجانية على الطريق الوحيد الذي يربط أرمينيا بقره باغ في ممر لاتشين.
ووفقا لباكو، أصبح ذلك ممكنا بعد أن اعترفت أرمينيا بوحدة أراضي أذربيجان في الاجتماعات الأخيرة ببراغ وسوتشي، وبناء على ذلك، أصبح من حق باكو أن تتصرف في تلك المنطقة وفقا لتقديرها. إلا أن ممثلين عن الطرف الروسي يؤكدون على أن اتفاق 2020 لم ينص على ذلك.
من نص الاتفاقية المؤرخة في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2020: “يظل ممر لاتشين (بعرض 5 كيلومترات)، الذي سيضمن ربط قره باغ مع أرمينيا ولن يؤثر على مدينة شوشا، تحت سيطرة قوات حفظ السلام الروسية. وباتفاق الطرفين، سيتم تحديد خطة لبناء طريق مروري جديد على طول ممر لاتشين خلال السنوات الثلاث المقبلة، ما يوفر الاتصال ما بين قره باغ وأرمينيا، مع إعادة انتشار لاحقة لوحدة حفظ السلام الروسية لحراسة هذا الممر”.
من جانبه أكد الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف باستمرار على أن قضية قره باغ قد تم حلها واستعيدت السيادة على الإقليم، واقترح أن يغادر السكان الأرمن أو يقبلوا الجنسية الأذربيجانية.
بدوره وافق رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان على أن قره باغ هي أراض أذربيجانية، إلا أنه لفت الانتباه إلى حقيقة أن “قضية حقوق وأمن الأرمن في قره باغ يجب أن تتم مناقشتها في صيغة باكو-ستيباناكيرت”، ويجب أن يتم توفير الضمانات الدولية لتلك القضية.
على الجانب الآخر أدان أعضاء برلمان قره باغ نهج باشينيان في بيان صدر عنهم في 22 مايو/آيار 2023، جاء فيه أنه يتجاهل سيادة قره باغ وحق شعبها في تقرير المصير وحقيقة تنفيذه.
العمليات القتالية في سبتمبر 2023
يوم أمس الثلاثاء 19 سبتمبر/أيلول، أعلنت أذربيجان بدء ما أسمته “إجراءات محلية لمكافحة الإرهاب” في قره باغ، حيث حددت وزارة الدفاع في البلاد الأهداف التالية لتلك الإجراءات:
ننزع سلاح القوات الأرمنية وانسحابها (من جانبها أعلنت أرمينيا أنه لا يوجد لها أفراد عسكريون على أراضي جمهورية قره باغ غير المعترف بها).
العودة إلى “الأراضي المحررة من الاحتلال”.
“استعادة الهيكل الدستوري لأذربيجان”.
اليوم الأربعاء 20 سبتمبر/أيلول، أعلنت سلطات جمهورية قره باغ عن توصل الطرفين إلى وقف كامل للأعمال العدائية اعتبارا من الساعة الواحدة من ظهر اليوم بوساطة من قوات حفظ السلام الروسية.
تضمن الاتفاق حل جيش جمهورية قره باغ ونزع سلاحه وانسحاب الوحدات المتبقية من القوات المسلحة الأرمنية من منطقة انتشار قوات حفظ السلام الروسية. كما اتفق الطرفان على مناقشة قضايا إعادة الاندماج وضمان حقوق وأمن السكان الأرمن في قره باغ في اجتماع لممثلي السكان الأرمن المحليين والسلطات الأذربيجانية في يفلاخ يوم غد 21 سبتمبر/أيلول.
وبحسب مكتب أمين المظالم في قره باغ، فقد قتل نتيجة النزاع الأخير أكثر من 30 شخصا، منهم 7 مدنيين، وأصيب أكثر من 200 شخص، منهم 35 مدنيا، فيما أبلغت باكو عن وفاة شخص واحد من جانبها.
المصدر: وكالات