تشهد آثار قرية الفاو لتعددية مدهشة في الأساليب والطرق الفنية المتبعة في هذه الناحية من الجزيرة العربية. نقع على قطع فنية تتبع في صياغتها بشكل جلي الأساليب الخاصة التي سادت في القسم الجنوبي من الجزيرة، وهناك قطع تتبنّى تقاليد محلية ظهرت في نواحٍ أخرى من هذه الجزيرة، كما نعثر على مجموعة من القطع تحمل طابعاً إغريقياً صرفاً. في المقابل، ثمة قطع تتداخل فيها هذه الأساليب في بعض الأحيان وتنصهر في حلة مبتكرة جامعة، منها لوحة جدارية محفوظة على لوح في متحف الآثار في جامعة الملك سعود، تمثّل فارساً يتمدّد على سرير المأدبة، أمام سيدة تضع على رأسها تاجاً كبيراً.
في وسط هذه اللوحة التي ضاع جزء كبير منها للأسف، يحضر رجل يجلس ممدّداً على سرير أبيض، في وضعية خاصة تجمع بين حركات متعددة. فها هو جالس في وضعية المواجهة، متكئاً بذراعه اليمنى على جنب هذه الكنبة الوثيرة، رافعاً بيده كأساً دائرية نحو أعلى صدره. تمتدّ الذراع اليسرى أفقياً، وتنحني نحو الأسفل لتلامس ركبة الساق اليسرى. في حركة موازية، تمتد هذه الساق أفقياً وتلامس قدمها العارية طرف السرير. وتنثني الساق اليمنى لتلامس بقدمها العارية وسط الساق اليسرى. يمسك الرجل بيده اليسرى زمام حصان أرجواني اللون يطلّ من خلف السرير، رافعاً رأسه جانبياً في اتجاه سيّده.
يرتدي الفارس ثوباً أبيض من قطعة واحدة، تزين القسم الأسفل منه شبكة من الخطوط الحمر تحاكي ثنايا الرداء الملتف حول الساقين كما يبدو. يخلو القسم الأعلى من الثوب من هذه الخطوط، ويعلوه شريطان أرجوانيان عموديان ينسدلان نحو أسفل البطن. ينعقد حول الخاصرة زنّار من لون مماثل يفصل بين جزأي الثوب. وجه الفارس مُواجه للمُشاهد، وعيناه شاخصتان تحدّقان في الأفق. الشعر كثيف وأسوَد كالح، ويتميّز بضفيرتين تحدّان الوجه وتنسدلان في اتجاه الكأس المرفوعة عند وسط الصدر. يعلو الرأس إكليل ضاع الجزء الأيسر منه، وبقي منه طرفه الآخر. يحضر الحصان برأسه الجانبي وعنقه المنتصب بثبات، ويتميّز بإسراجه الفاخر المكوّن من سلسلة من الأحجار اللؤلؤية البيضاء، إضافة إلى عقود مماثلة في الشكل تلتفّ حول العنق.
في الطرف المقابل، يتقدّم من الفارس خادم فتي أمرد يقف في محاذاة السرير، رافعاً بيده اليمنى كأساً مماثلة لتلك التي يحملها سيّده. يرتدي هذا الخادم ثوباً أبيض تزيّنه شبكة من الخطوط الحمر المتوازية، يعلوه معطف فضفاض أرجواني قصير. يتميّز هذا المعطف بعقد أبيض عريض يحدّ الرقبة، وبشريطين أبيضين يزيّنان الصدر. يخفي الثوب الساقين بشكل كامل، ويكشف عن القدمين العاريتين الثابتين فوق مساحة أفقية بيضاء تحدّ طرف الصورة الأسفل.
تتألف خلفية هذه الصورة من مساحتين مستطيلتين مستقلتين. ترتسم قامة الخادم فوق خلفية حمراء، في حين ترتسم قامة سيّده فوق خلفية بيضاء تشكلّ كما يبدو امتداداً لسريره العريض. ينتصب الحصان من خلف هذا السرير، وتختفي قامته خلف مساحة بيضاء أخرى تشكل خلفية لصورة أخرى موازية هي إطارٌ لصورة أخرى من هذه اللوحة الجدارية التي وصلتنا بشكل مجتزأ للأسف. تحضر امرأة في صورة نصفية، ويبدو أنها تحتلّ المكانة الأولى في هذه الجدارية، كما يشهد القياس التناسبي لحجم صورتها ضمن هذا التأليف الجامع. الوجه نصف جانبي، ويتميّز في الدرجة الأولى بأسلوبه الشرقي الذي يتجلى في صياغة ملامحه. العينان لوزتان واسعتان يتوسط كلاً منهما بؤبؤ دائري أسود. الأنف خطّ عمودي مجرّد، أمّا الفم فضائع للأسف. الشعر على شكل عقد أسوَد تزينه سلسلة من الدوائر اللؤلؤية البيضاء، يعلوه تاج زهري كبير تحدّه سلسلة من المثلثات.
تلتحف هذه الملكة المتوّجة معطفاً أبيض تزيّنه شبكة من الخطوط الحمر، وفقاً للأسلوب المعتمد في صياغة هذه اللوحة الجدارية. كما أنّها تتزيّن بسلسلة من خمسة عقود، أوّلها عقد مكوّن من أحجاء لؤلؤية، ثانيها عقد مكوّن من أحجار مستطيلة. لا نعرف من تكون هذه الملكة، ولا نعرف من يكون الفارس الذي يجاورها، والأكيد أنهما من سادة القوم، كما تشهد زينتهما المترفة. في أسفل هذه الصورة الشخصية، وفي إطار مستقل، تحضر ثمرة رمّان، وهي «التفاحة ذات الحبّ»، التي ترمز إلى الحياة والخصوبة في حضارات العالم القديم، كما أنها من ثمار الفردوس، كما يُستدل من قول التوراة «أغراسكِ فردوس رمّان» (نشيد الإنشاد 4: 13).
تختزل هذه اللوحة تداخل الأساليب وتمازجها الخلّاق في موقع قرية الفاو. يحضر الفارس على سرير المأدبة، ويعلو رأسه إكليل من الغار يستقر فوق شعره الطويل. هذا السرير معروف في الميراث الإغريقي الروماني، وهو حاضر في الفن الجنائزي، كما في الفن المدني، حيث يظهر صاحب المائدة على فراش وثير، ملتحفاً الرداء والمعطف التقليديين. وتتعدّد صور هذا السرير في الشرق الروماني، كما في تدمر، حيث يأخذ هذا النموذج طابعاً مميّزاً وهويّة خاصة. هنا، تسيطر الوضعية المواجهة للوجه على التأليف، وتحضر القامات في وضعيات ثابتة، ترافقها حركات مكرّرة من الأيدي. يظهر الرجل ممدداً فوق الأريكة رافعاً بيمناه كأساً، بينما تجلس زوجته من خلفه عن اليسار، في قياس تناسبي يعتمد تصغير حجمها. يخرج الفن التدمري عن قواعد الأسلوب الروماني الكلاسيكي بتجسيمه الواقعي وشبهه الفردي، ويتبنّى جمالية خاصة في صياغة عناصر الصورة، تجنح نحو التحوير والزخرفة والتجريد.
في الخلاصة، تعود جدارية سرير المأدبة في قرية الفاو إلى القرون الميلادية الأولى، وتشكّل امتداداً لهذه التقاليد الرومانية الشرقية. تبدو الملكة المتوّجة شبيهة بسيّدات البادية السورية، الحاضرات بحللهن وعقودهن الثمينة. كذلك، يبدو الفارس الممدّد على سريره شبيها بأسياد هذه البادية، غير أنه يتميّز بزيّه المحلّي، كما أنه يتفرّد بظهوره ممسكاً زمام حصان فاخر الإسراج؛ مما يجعل من هذه الجدارية أثراً فنياً يحتل مكانة خاصة في هذا الميدان.
المصدر: وكالات