في أكتوبر/تشرين الأول عام 2022، أثار الديمقراطيون التقدميون في الكونغرس الأميركي ضجة كبيرة بإصدار خطاب يحث الرئيس جو بايدن على مواصلة المفاوضات مع روسيا لإنهاء الصراع في أوكرانيا.
وآنذاك، دعا الموقعون عليه إلى “دفعة دبلوماسية استباقية.. للبحث عن إطار واقعي لوقف إطلاق النار”، لكن سرعان ما تم التراجع عنه.
وفي الشهر التالي، كرر الجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الدعوة لأوكرانيا “لاغتنام اللحظة” والتفاوض، دافعا بأن كييف من غير المرجح أن تحقق مزيدا من المكاسب العسكرية بالمستقبل المنظور، فيما رفض أنصار أوكرانيا بشراسة، مؤكدين أن المفاوضات تعني حتما التسوية مع روسيا وبالتالي انتصارها.
واعتبر تحليل نشرته مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية أن سؤال “هل المفاوضات جيدة أم سيئة يحيد عن الهدف”، لافتا إلى أن المفاوضات مجرد أداة، وكما الحال مع أي أداة، فإنها مفيدة طالما تحقق المصالح والنتائج المرجوة، وأن السؤال الأصح هو ما إذا كان بإمكان المفاوضات أن تؤدي إلى نتيجة أفضل للولايات المتحدة وأوكرانيا مقارنة بعدم التفاوض.
وبالوقت الراهن، لازال الجواب “لا”؛ حيث إن عدم التوصل لاتفاق يظل ممكنا بينما أوكرانيا تحرز تقدما مطردا بساحة المعركة وروسيا التي تعيش حالة إنكار لهذا الواقع. لكن رأى التحليل أن هذا الجمود لا يحتاج أن يكون دائما، وأنه بمواصلة الضغط على روسيا، يمكن لأوكرانيا وشركائها في الغرب بدء تهيئة الظروف لنجاح المفاوضات.
عند تحديد ما إذا كان التوصل لاتفاق يبدو ممكنا، غالبا ما يشير المفاوضون إلى مفهوم يعرف باسم “منطقة الاتفاق المحتمل”، أو “ZOPA”، وهي الفجوة بين النقطة الجوهرية الحقيقية لأطراف التفاوض – أي الاختلاف بين الحد الأقصى المطلق لما يمكن أن يقدمه أحد الأطراف، والحد الأدنى المطلق الذي يمكن للآخر قبوله.
وفي تلك الفجوة تكمن مجموعة الصفقات المقبولة نظريا لكلا الجانبين، وتكون مهمة المفاوضين الاستقرار على أحدها، حيث يسعى كل جانب بطبيعة الحال للحصول على أفضل اتفاق لنفسه.
وفي ظل الظروف الحالية، لا منطقة اتفاق محتمل بين روسيا وأوكرانيا – حيث إن أكثر شيء روسيا مستعدة لتقديمه على الأرجح أقل مما يمكن لأوكرانيا قبوله.
وفي حين أشار المسؤولون الأوكرانيون إلى عزمهم استعادة كل شبر من الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك المناطق التي تم السيطرة عليها قبل اندلاع الصراع الأخير في فبراير/شباط 2022، أكد المسؤولون الروس أنهم عازمون على التمسك بأراض أوكرانية رئيسية، مثل دونيتسك، ولوغانسك، والقرم، الأمر الذي يعكس ما يعتبره الطرفان مصالحهم الحقيقة الآن.
وتستخدم روسيا وأوكرانيا والغرب المعلومات الاستخباراتية والتحليلات لتبين الغاية النهائية الحقيقية للطرف الآخر. ومن أجل التقييم الدقيق لعرض الحد الأدنى الذي سيقبله الطرف الآخر، يتعين على المفاوض فهم كيفية رؤية الطرف الآخر لمصالحه (وبالتالي ما يقدره)، ومن بين دائرة تلك الأطراف يؤثر على تلك المصالح.
وبالرغم من أن الصراع بين روسيا وأوكرانيا مدفوع في الأساس بالسيطرة على الأراضي – التي تعود ملكيتها قانونا إلى أوكرانيا – رجحت موسكو والعديد من المسؤولين الغربيين أن أي اتفاق متفاوض عليه يجب أن يتناول عوامل أخرى، مثل وقف إطلاق النار، وتخفيف العقوبات، وتبادل الأسرى، والعلاقات الأمنية بين روسيا والناتو، وموقف أوكرانيا تجاه التحالف وكذلك الاتحاد الأوروبي.
لكن من أجل التوصل إلى اتفاق، يحتاج المفاوضون الغربيون والأوكرانيون أيضًا أن يفهموا المصالح التي توجه سلوك روسيا، لكن في الواقع من الصعب رؤية كيف يمكن للحرب الروسية تحقيق أي تصور واقعي للمصالح القومية الروسية، بالنظر إلى التكلفة الاقتصادية، والدبلوماسية، والبشرية التي تكبدها البلد دون تحقيق شيء يذكر.
وأشار التحليل إلى أن أحد سبل التوصل إلى “منطقة الاتفاق المحتمل” هي تغيير الغاية النهائية لروسيا بمفاقمة تصورها عن بدائل الاتفاق التفاوضي وبالتالي جعل الاتفاق أكثر جاذبية. ومن الواضح أن رؤية موسكو لما يمكنها تحقيقه بدون مفاوضات أصبحت قاتمة بالفعل، بسبب مزيج من المقاومة الأوكرانية الشرسة، والمساعدات العسكرية الغربية، والعقوبات الاقتصادية، وتوسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) المخطط له لضم السويد وفنلندا.
ونظرا لعدم وجود تداخل واضح بين ما تجده أوكرانيا وروسيا مقبولا وما ستطلبه روسيا، لا يوجد سبب يذكر يدعو للاعتقاد بأن الذهاب إلى طاولة المفاوضات بالوقت الراهن سيسفر عن نتيجة ستفيد إما المصالح الغربية أو الأوكرانية. وفي معركة ما يسمى بـ”أفضل بديل للاتفاق المتفاوض عليه”، أو “BATNAS”، أوكرانيا تفوز.
وأوضح تحليل “فورين أفيرز” أن القوات الأوكرانية أفضل حالا – والروسية أسوأ حالا – مما تصور أي أحد قبل الصراع وضعفت آمال موسكو فيما يمكنها تحقيقه عسكريا مع كل شبر من الأراضي تستعيده أوكرانيا وتسيطر عليه.
وإذا كانت الولايات المتحدة تأمل في رؤية روسيا تغادر أوكرانيا نتيجة لتسوية تفاوضية، يجب عليهم إقناع موسكو بالتزامهم تجاه تمكين الجنود الأوكرانيين من إخراج القوات الروسية بالقوة وبمضاعفة العقوبات الأخرى جراء العدوان الروسي.
ويعني فعل ذلك مواصلة الضغط على موسكو، والدعم الثابت لأوكرانيا. وفقط عندما ينجح مثل هذا العمل في إفساح “منطقة اتفاق محتمل” يمكن للدبلوماسيين إبرام اتفاقيات.
المصدر: وكالات