غوته الفيلسوف رسم الحياة في مشهد التنوع اللامتناهي

يجمع الباحثون على مقام يوهان ڤولفغانع فون غوته (1749-1832) في الأدب والفكر الألمانيين، ذلك بأنه جمع في شخصيته معارف شتى تناول بواسطتها حقول الآداب والعلوم والفنون، حتى إنه أضحى يعد مع مارتن لوثر (1483-1546) من أعظم المفكرين تأثيراً في الثقافة الألمانية. ولد غوته في مدينة فرانكفورت، واكتسب من خبرة والده، مستشار البلاط السياسي، ثقافة راسخة وانفتاحاً نافعاً مغنياً على اللغات، لا سيما اليونانية واللاتينية والفرنسية والإيطالية. مراعاة لرغبة والده الذي كان حريصاً على ضمان مستقبل الابن الموهوب، التحق عام 1765 بكلية القانون في جامعة مدينة لايبتسيش، وما لبث أن أكمل الإجازة عام 1771 في مدينة ستراسبور الفرنسية من بعد أن أصابه داء السل وأقعده عن الدراسة طوال سنتين.

في هذه المدينة التقى الأديب الألماني هردر (1744-1803) الذي نصحه بقراءة الشاعر الإغريقي هوميروس، والأديب الإنجليزي شكسبير (1564-1616)، والشاعر الاسكتلندي جيمس ماكفرسون أوسيان (1736-1796)، ولكنه سرعان ما أكب على تأليف بعض القصائد والأناشيد (Neue Lieder ; Sesenheimer Lieder) التي لاقت رواجاً منقطع النظير في الأوساط الأدبية المحلية. من محاسن الإقامة في ستراسبور معاينة الهندسة الرائعة التي تحتضنها كاتدرائية المدينة، إذ إن غوته، جراء تأمله في البناء الكنسي الرائع هذا، أنشأ بحثاً مستفيضاً في الهندسة الألمانية (Von deutscher Baukunst) يمتدح الفن الغوطي الذي لم تكن الأوساط الألمانية توليه الاهتمام الذي يستحقه.

عصبة “العاصفة والاندفاع”

516SRMknYmL._SX342_SY445_QL70_ML2_.jpg

كتاب المراثي بالألمانية (أمازون)

المسؤوليات الإدارية في ڤايمار

من جراء الشهرة التي اكتسبها غوته بفضل هذه الرواية، وقد عزز أيضاً صيته الأدبي بنشر بعض المسرحيات، دعي إلى بلاط الدوق كارل أوغوسط (1757-1828) في مدينة ڤايمار التي كانت محط أنظار الأدباء والعلماء ورجال السياسة، تنشط فيها حركة ثقافية ثورية بفضل الرؤية الإصلاحية التي كانت تناصرها والدة الدوق المثقفة الدوقة أنا أماليا (1739-1807). في أجواء البلاط السياسي استطاع غوته أن يكتسب ثقة الدوق الذي عهد إليه بوظيفة مشير البلاط، وأناط به مسؤوليات شتى، منها دائرة المناجم ووزارة المال، ولجنة الهندسة والطرق، وهيئة الإشراف على مسرح المدينة، ومشروع إنشاء الحديقة العامة (Park am Ilm). لا عجب، والحال هذه، من أن يرقيه الإمبراطور جوزف الثاني إلى رتبة النبلاء.

صحيح أن المسؤوليات الإدارية والمهام السياسية التي اضطلع بها منعته من المواظبة على الكتابة، إلا أنها جعلته يدرك مقام العمل الجماعي وانعطابات الفعل التاريخي. اضطر مكرهاً إلى الالتحاق بالحملة العسكرية المناهضة الثورة الفرنسية، بيد أن الهزيمة التي أصابت الجيش البروسي في ڤالمي يوم 30 سبتمبر (أيلول) 1792 دفعته إلى التصريح بأن الزمن قد تغير “اليوم يفتتح عهد جديد في تاريخ العالم”.

جمالات إيطاليا وصداقة شيلر

811hLbGx+5L.jpg

تحفته الكبيرة “فاوست” (أمازون)

في عام 1786 يمم غوته شطر إيطاليا ليمضي في أرجائها زهاء سنتين يستكشف كنوزها، ويمتدح عبقرية أدبائها وفنانيها، ويغرم بالمرأة التي أصبحت قرينته من بعد أن اختبر وإياها قبل الزواج شغف الهوى ومتعة الاقتران الجسدي. بفضل علاقة العشق هذه، أنشأ غوته بضعة من أروع أناشيد الحب (Römische Elegien). أما علاقة الصداقة التي وسمت حياته فاختبرها في لقاء صديق عمره الأديب الألماني فريدريش شيلر (1759-1805) الذي ما استطاب في بادئ الأمر الارتباط به لشدة ما عاينه في شخصية هذا الشاعر من اختلاف حاد في الطباع والرؤية والميول، ولكنه سرعان ما أدرك أن بين روحيهما تنعقد شراكة وجدانية عميقة تجلت في الانسجام الناشط بين عبقرية كل واحد منهما. فإذا بعرى الألفة تتوثق بين الأديبين ابتداءً من عام 1794، وتفضي إلى أبدع ما أفرجت عنه تلك الحقبة من تاريخ الأدب الألماني.

من جراء التعاون الوثيق بين الرجلين أنهى غوته الروايتين الشهيرتين اللتين تحولتا إلى تحفة أدبية ومرجع إلهامي في أدب التنشئة (Wilhelm Meisters Lehrjahre ; Hermann und Dorothea). وكذلك فعل شيلر، إذ ألهمه غوته وبعث فيه العزم على إنهاء ثلاثيته الروائية (Wallenstein). غير أن الموت خطف شيلر في ذروة عطائه، فوقع غوته في الحزن والإحباط، ذلك بأن علاقتهما توطدت حتى الاتحاد الروحي، بحسب ما أورد مؤرخ أدب الدراما ألفرد بايتس “لم ينفصل غوته وشيلر الواحد عن الآخر على الإطلاق في أذهان مواطنيهما، فسطع نورهما نجمين توأمين في سماء الأدب. أحب الناس شيلر حباً أعظم، مع أنه لم يحظ بالمقام الأول، بخلاف غوته الذي كان إعجابهم به فائقاً” (Alfred Bates، The Drama. Its History، Literature and Influence on Civilization).

المصدر: وكالات