مع اقتراب الحرب المدمرة في إثيوبيا من إكمال عامها الثاني، وقَّعت الحكومة الفيدرالية الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي “اتفاقية لسلام دائم عبر وقف دائم للأعمال العدائية”، في جنوب إفريقيا، برعاية الاتحاد الإفريقي، في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
كانت الاتفاقية مفاجئة للجميع بالنظر إلى العوائق الكبيرة التي كانت تعترض سبيل الوصول إلى المحادثات أولًا، وبلوغها غايتها في إنجاز توافق بين طرفي الحرب الرئيسيين ثانيًا.
وتحاول هذه الورقة تحديد الدوافع التي قادت الطرفين إلى بريتوريا، والمكاسب والتنازلات التي قدمها الطرفان، بجانب البنود الإشكالية التي قد تقود إلى الإخفاق في تطبيق الاتفاق، وتختم بالسيناريوهات المتوقعة.
أولًا: دوافع الطرفين للانخراط في المفاوضات وتوقيع الاتفاقية
مجموعة متشابكة من الدوافع تقف وراء قبول الطرفين بالسفر إلى جنوب إفريقيا وخوض مفاوضات شاقة انتهت بالتوقيع على الاتفاقية، بعض هذه الدوافع يشترك في التأثر بها طرفا المفاوضات والبعض الآخر أثَّرت في أحدهما دون الآخر، ومن أهمها:
1- العواقب الاقتصادية للحرب: بعد قرابة عامين من حرب مدمرة، تبدو الأوضاع الاقتصادية في إثيوبيا آخذة في التردي؛ حيث أثَّرت الأعمال العسكرية والعقوبات على العديد من قطاعات الاقتصاد الإثيوبي.
فقد أصدرت وزارة المالية، مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، نشرة إحصائية للديون، أشارت إلى تراجع مدفوعات المقرضين الخارجيين بوتيرة لم تشهدها السنوات الأربع الماضية، في حين تضاءل القرض الذي تم التعهد به من قبل نفس المقرضين إلى 290 مليون دولار أميركي فقط خلال السنة المالية الماضية، أي أقل بست مرات مما تم تسجيله في 2020/2021(1).
كما تراجع حجم القروض المقدمة من المقرضين متعددي الأطراف كالبنك الدولي وبنك التنمية الإفريقي وصندوق النقد الدولي، إلى أقل بثلاث مرات مما تم تسجيله قبل عامين، بينما يظهر انخفاضًا بنسبة 16% عن العام السابق(2).
وهو ما يأتي في سياق الخلاف العميق بين أديس أبابا والحكومات الغربية المتنفذة في هذه المؤسسات حول الحرب في إقليم تيغراي، ويمكن إدراك حساسية الحاجة إلى هذه التدفقات بالنظر إلى أن الضرائب التي استوفتها الحكومة الإثيوبية عام 2020 مثَّلت 6.2% فقط من الناتج المحلي الإجمالي وفقًا لبيانات البنك الدولي(3).
بعد اندلاع الجولة الجديدة من القتال سرعان ما بدت آثار الأوضاع الاقتصادية جلية في العديد من الإجراءات الحكومية حيث أطلقت وزارات الخارجية والمالية بالتعاون مع وكالة الشتات الإثيوبية والبعثات الإثيوبية في أنحاء العالم، في 13 سبتمبر/أيلول، حملة تستمر شهرًا تحث الإثيوبيين في الخارج “لتعبئة الموارد التي تمس الحاجة إليها”(4).
سبق ذلك بأيام مطالبة وزارة المالية الإثيوبية إثيوبيي الشتات بالتبرع لدعم الحكومة في مواجهة النفقات التي تتطلبها العمليات العسكرية(5)، كما حاولت استقطاب الاستثمارات من خلال دعم خصخصة بعض المؤسسات، ومنعت القادمين إلى البلاد من الاحتفاظ بالعملة الصعبة في حال نيتهم الإقامة أكثر من 90 يومًا في البلاد(6).
2- الأوضاع الإنسانية الكارثية في إقليم تيغراي
أدى الحصار المطبق على تيغراي إلى عواقب كارثية على المستوى الإنساني، وقبل اندلاع الجولة الأخيرة من القتال بأيام، أعلن برنامج الغذاء العالمي، في 19 أغسطس/آب، أن الحرب في تيغراي تركت ما يقرب من نصف سكان المنطقة في حاجة “شديدة” إلى المساعدات، وأن معدلات سوء التغذية تشهد ارتفاعًا ومن المتوقع أن تزداد سوءًا(7).
كما ارتفع عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى مساعدات غذائية إلى 89%، مقارنة بـ83% في يناير/كانون الثاني، بينما ارتفع عدد المحتاجين “بشدة” إلى المساعدات الغذائية من 37%، في يناير/كانون الثاني، إلى 47%، في أغسطس/آب، حيث يكافح عمال الإغاثة لتوزيع المساعدات الغذائية بسبب نقص السيولة والوقود(8).
تسببت الجولة الجديدة من القتال في تدهور الكارثة الإنسانية في الإقليم(9)؛ ما شكَّل ضغطًا شعبيًّا وأخلاقيًّا على الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي لمحاولة الحد منها بكل السبل المتاحة؛ حيث مثَّل الإعلان عن مفاوضات بريتوريا فرصة لوضع الحالة الإنسانية في تيغراي على رأس أجندة التفاوض، والذي انتهى بالاتفاق على السماح بوصول المساعدات دون عوائق وإعادة الخدمات الأساسية.
ووفقًا للعديد من المؤشرات، فإن الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بادرت بإشعال القتال، أواخر أغسطس/آب الماضي، لإجبار الحكومة الإثيوبية على رفع الحصار(10)، بعد أن أخفقت الجهود السابقة في دفع الحكومة الفيدرالية إلى مراجعة موقفها من سياسة الحصار المطبقة على الإقليم.
3- دائرة الحرب المفرغة
رغم اعتماد كل من الحكومة الفيدرالية وقيادة التيغراي على الحرب وسيلة أساسية للانتصار، فإن ما ثبت خلال قرابة عامين من عمر الأزمة هو عدم قدرة كل منهما على الحسم النهائي ميدانيًّا.
وقد مثَّلت الجولة الأخيرة من القتال بشراستها وتقلباتها الميدانية نموذجًا لمحاولات مستميتة من الطرفين للوصول إلى الهدف دون نجاح، رغم التكلفة البشرية والمادية الكبيرة، فالإنهاك الذي وصل إليه الطرفان أسهم في جعلهما أكثر انفتاحًا على الحل التفاوضي.
فأدوات القوة التي بيد الحكومة الإثيوبية، من الأسلحة المتطورة والتحالفات المحلية والخارجية، وتسخير إمكانات الدولة للحرب، أثمرت تقدمًا ميدانيًّا مهمًّا أضعف التيغراي قبل دخول المفاوضات، لكنها بالمحصلة لم تفلح في سحق مقاتلي التيغراي والوصول إلى عاصمة الإقليم، مقلي.
في حين أن هذه الضغوط الهائلة دفعت مقاتلي التيغراي إلى الاعتراف بصعوبة الصمود من خلال إستراتيجيات حروب الجيوش النظامية(11)، ولجوئهم بالتالي إلى حرب العصابات كخيار أنسب، وهو ما تجلى في التخلي عن التمسك بالتجمعات السكانية الكبرى لصالح التمركز في الريف والقيام بهجمات مفاجئة على القوات المعادية.
وهو ما يعني عمليًّا إطالة أمد المأساة الإنسانية في تيغراي، واستمرار الصراع واستنزاف الحكومة الإثيوبية التي تعاني أصلًا من عواقب الحرب والعقوبات الاقتصادية بجانب اضطراب الأوضاع الأمنية في العديد من مناطق البلاد، ورغم التقدم الميداني لقوات الحكومة وحلفائها فإن السؤال كان سيبقى عن القدرة على السيطرة على الإقليم حتى لو تم دخول العاصمة الإقليمية، مقلي، بالنظر إلى التجربة الماضية التي انتهت إلى خروج القوات الحكومية من الإقليم مرة أخرى صيف 2021.
4- الضغوط الأميركية
هذه الضغوط اتخذت أشكالًا مختلفة لعل أبرزها ما سبق الحديث عنه من المصاعب الاقتصادية التي واجهتها الحكومة الإثيوبية؛ حيث يعزى تراجع التدفقات من المؤسسات المقرضة الدولية إلى الخلاف العميق بين أديس أبابا والدول الغربية لاسيما الولايات المتحدة النافذة فيها حول التعاطي مع الحرب في إقليم تيغراي.
كما أصدر الرئيس الأميركي، جو بايدن، قرارًا بتمديد حالة الطوارئ الخاصة بإثيوبيا(12) بالتزامن مع زيارة مبعوثه إلى القرن الإفريقي، مايك هامر، إلى المنطقة، والذي أثمرت جهوده عن جمع الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في جيبوتي، أولًا(13)، ثم في محادثات جنوب إفريقيا.
في نفس السياق، أسفرت الجهود الأميركية عن توسيع لجنة الوساطة الإفريقية الميسرة لمفاوضات بريتوريا لتضم الرئيس الكيني السابق، أوهورو كينياتا(14)، حيث أعلن الأخير أمله في وضع وقف إطلاق النار “الفوري وغير المشروط” على رأس أجندة المفاوضات(15).
ويبدو أن دعم تعيين كينياتا كان من ضمن الضمانات التي قُدمت للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي للانضمام إلى المفاوضات، حيث اقترحت الأخيرة سابقًا الرئيس الكيني السابق بديلًا لمبعوث الاتحاد الإفريقي، أوليسون أوباسانغو(16).
تكثفت الضغوط الأميركية على طرفي الصراع في أثناء جولات بريتوريا التي اعتبرت الفرصة الأخيرة لإنقاذ إثيوبيا، وهو ما عبَّر عنه دبلوماسيًّا رضوان حسين، المستشار الأمني لرئيس الوزراء الإثيوبي، الذي قاد فريق التفاوض الحكومي في بريتوريا، من أن الحكومة الأميركية قدمت مساهمة كبيرة في إنجاح محادثات السلام في جنوب إفريقيا، وأن الحكومة الأميركية كان لها “دور مهم في إقناع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي والضغط عليها للمجيء إلى المفاوضات”(17)، في مفارقة لافتة مع السردية الرسمية المرتكزة على دعم واشنطن للتيغراي لفرض هيمنتها على إثيوبيا، وهو ما يعزى إلى التغيرات التي طرأت على طبيعة العلاقات بين أديس أبابا وواشنطن مؤخرًا(18).
كما أن الضغوط الأميركية مستمرة لتطبيق اتفاقية بريتوريا وترتيباتها الأمنية في نيروبي حيث أكد مسؤول رفيع في الخارجية الأميركية أن بلاده “لن تتردد” في فرض عقوبات لدفع الأطراف لتنفيذ التزاماتها(19).
5- تغير الموقف الإفريقي
الثلث الأخير من شهر أكتوبر/تشرين الأول شهد بعض التغيرات على تعاطي بعض الدول الإفريقية مع الحرب الإثيوبية، فيما يبدو أنه رد فعل مباشر على البيان الذي أصدرته الحكومة الإثيوبية، في 17 أكتوبر/تشرين الأول، حيث أكدت استمرارها في القيام بـ”إجراءات دفاعية” ضد الهجمات المتكررة للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وضرورة “السيطرة الفورية [من قبل الحكومة] على جميع المطارات والمرافق والمنشآت الفيدرالية الأخرى في المنطقة [تيغراي]”(20)؛ وهو ما تلاه تصعيد ملحوظ للقتال.
وبينما أكدت الحكومة في البيان التزامها بالحل السلمي لكنها لم تعلن صراحة موافقتها على الانخراط في مفاوضات جنوب إفريقيا التي دعا إليها قبل يومين موسى فقي محمد، رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، مناديًا بـ”وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار واستئناف الخدمات الإنسانية”(21) في إقليم تيغراي، وهو ما رحبت به سلطات قيادة التيغراي معلنة أنها “مستعدة للالتزام بوقف فوري للأعمال العدائية”(22).
حيث لاحظ مراقبون أن إثيوبيا واجهت معارضة إفريقية “للمرة الأولى”(23) في اجتماع مجلس السلم والأمن الإفريقي في جلسته المخصصة لمناقشة عملية السلام بقيادة الاتحاد الإفريقي في إثيوبيا، في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2022، والذي خرج ببيان صحفي دعا إلى “وقف إطلاق نار فوري وشامل وغير مشروط واستئناف الخدمات الإنسانية”، كما أكد “الضرورة الإستراتيجية لإيجاد حل سياسي للصراع”(24).
في 17 أكتوبر/تشرين الأول، دعت المجموعة الإفريقية في مجلس الأمن الدولي المكونة من الغابون وغينيا وكينيا المجلس لعقد جلسة لمناقشة الأوضاع في إثيوبيا؛ حيث صاغ الثلاثي بيانًا أعرب عن القلق البالغ حيال استمرار المعارك وتدهور الأوضاع الإنسانية، ومؤكدًا استحالة الحسم العسكري للأزمة الإثيوبية(25)، وهو جهد لم يكلَّل بالنجاح نتيجة عرقلة روسيا والصين لجهود الثلاثي الإفريقي(26).
أشار هذا إلى تغير في الموقف الإفريقي الداعم تقليديًّا لأديس أبابا، وهو ما يمكن تفسيره بأن كتلة وازنة في الاتحاد الإفريقي أرادت الضغط على أديس أبابا لتتعاطى إيجابيًّا مع الدعوة الإفريقية إلى التفاوض في بريتوريا تحت سقف الاتحاد الإفريقي، وهو ما وصفه بيان المجموعة الإفريقية في مجلس الأمن بأن الأطراف المتحاربة يجب أن “تحترم وتدعم أدواتنا” من خلال القبول بالتفاوض في بريتوريا(27)؛ وهو مما أسهم على ما يبدو في دفع الحكومة الإثيوبية لإعلان مشاركتها في محادثات بريتوريا، في 20 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والتي شهدت بدورها ضغوطًا إفريقية أكبر على الطرفين، لإنجاح المفاوضات التي كادت تنهار أكثر من مرة(28).
ثانيًا: مكاسب وتنازلات الطرفين
1- الحكومة الفيدرالية
وفقًا للعديد من المراقبين، فإن الاتفاقية كانت انتصارًا للحكومة الإثيوبية(29)؛ حيث أقر طرف التيغراي بعودة السيطرة الحكومية على الإقليم ونزع سلاحه، لكن الإقرار بعودة النظام الدستوري المرتكز على دستور 1994 الذي تم تبنيه إبان وجود الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي على رأس السلطة والذي يضمن للأقاليم الإثيوبية قدرًا موسعًا من الحكم الذاتي، أدى إلى غياب أي ملمح لمشروع رئيس الوزراء الإثيوبي المبني على دستور جديد يضمن قدرًا من أكبر من مركزية الحكم وسيطرة أديس أبابا على الأقاليم، كما أن الاتفاقية نصت على أولوية تسهيل وصول المساعدات وعودة الخدمات الأساسية إلى الإقليم، وبالتالي تخفيف قبضة الحصار الذي كان العمود الفقري لإستراتيجية الحكومة الفيدرالية خلال هذه الحرب.
في المقابل، حققت الاتفاقية للحكومة العديد من المكاسب، ومن أهمها:
أ- الاعتراف بالسيادة الإثيوبية وسريان دستورها على الإقليم
نصت اتفاقية بريتوريا على احترام جميع الأطراف لوحدة وسيادة إثيوبيا واحترام القواعد والمبادئ المكرسة في الدستور الإثيوبي (A2-a-b). وهو ما اعتبره العديد من المراقبين نصرًا كبيرًا للحكومة الفيدرالية، واعترافًا من الإقليم بشرعية حكومة رئيس الوزراء، آبي أحمد، باعتبار أن المعنى الفعلي لهذا الإقرار يمثل نجاح الحكومة في تحقيق الشعار الذي دخلت الحرب على أساسه “حملة إنفاذ القانون”.
لكنه في الحقيقة يستحق بعض التوقف بالنظر إلى أن الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي لم تعلن انفصالها عن الدولة الإثيوبية(30) بل إن رغبة رئيس الوزراء في تعديل الدستور الذي مثل رؤية الجبهة الشعبية لكيفية إدارة الدولة إبان قيادتها لإثيوبيا (1991-2018)، كان أحد محاور الخلاف السياسي بين الطرفين في مرحلة ما قبل الحرب حيث تعده الجبهة أبرز ملامح إرثها السياسي.
لكن قيمة هذا الإقرار تتضح عند النظر إلى الحملة الإعلامية الحكومية المكثفة التي استهدفت بناء رأي عام إثيوبي يرتكز على اتهام الجبهة خلال المرحلة الماضية بالكيان الانفصالي وبالأداة لتفكيك الكيان الإثيوبي، وبالتالي فإن ما أنجزته الاتفاقية هنا يمكن فهم أحد جوانبه بالنظر إلى الحرب الإعلامية التي كانت مستعرة بين الطرفين خلال العامين الماضيين.
ب- إعادة انتشار الجيش الفيدرالي داخل الإقليم وتفكيك القوى المسلحة في تيغراي(31)
نصَّت بنود اتفاقية بريتوريا على الاعتراف بالجيش الفيدرالي قوة عسكرية وحيدة في الدولة (A6-a) ودخوله إلى مقلي، عاصمة الإقليم، (A3-5) ، ونشره داخل الإقليم (A7-1-c) وعلى الحدود الدولية (مع إريتريا) وسيطرته على المجال الجوي وكل منشآت البنية التحتية الحيوية كالمطارات في الإقليم (A8-1-2-3) كما نصت الاتفاقية على تصميم وتطبيق برنامج نزع سلاح شامل لمقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي “مع الأخذ بعين الاعتبار الوضع الأمني على الأرض”(32)، على أن يتم نزع السلاح الثقيل خلال 10 أيام من إقرار القادة العسكريين لجدول بهذا الخصوص في حين يتم نزع باقي السلاح خلال 30 يومًا، وحل القوى المسلحة لتيغراي وإعادة دمجها (A6-b-e-f-g).
ويبدو هذا من أهم مكاسب الحكومة الفيدرالية من الاتفاقية، إذ لو استطاعت تنفيذ هذه المواد المتعلقة بنزع السلاح وتسريح مقاتلي التيغراي فإنها ستتمكن من السيطرة الأمنية التامة على الإقليم، وستنجز بالتالي ما عجزت عنه بالحرب.
من جهة أخرى، فإن هذه المواد من المرجح أن تُدخل الجبهة في مأزق إقناع أبناء الإقليم بنزع السلاح وهو ما يزداد صعوبة بعد تجربة الحرب المدمرة وحالة عدم الثقة الطويلة بالمركز، مع وجود أطراف تيغراوية مناهضة لنزع السلاح وتسريح المقاتلين ضمن الجدول المعلن عنه، وكذلك تأكيد الاتفاقية على منع أي “نشاطات عنف سرية أو علنية” (A3-2) سيؤدي إلى مواجهة الجبهة لأي طرف أو ميليشيا تحاول ممارسة العنف لتخريب وقف العدائيات داخل الإقليم.
ج- التخفيف من الضغوط الخارجية
قوبل الاتفاق بترحيب دولي واسع من الدول والمنظمات التي أعلنت عن دعمها متنوع الأشكال لتطبيقه، كما من المتوقع أن تنعكس الآثار الإيجابية للاتفاقية على الاقتصاد الإثيوبي بعودة الاستثمارات الأجنبية التي خرجت من البلاد نتيجة الأوضاع الأمنية غير المستقرة وتعليق الإدارة الأميركية لعضوية إثيوبيا في قانون النمو والفرص الإفريقي (AGOA) (33)، كما يتوقع أن تتدفق المساعدات الداعمة لعمليات إعادة الإعمار على إثيوبيا، ويبدو أن بعض المؤشرات بدأت بالظهور سريعًا؛ إذ رحب صندوق النقد الدولي بإعلان وقف إطلاق النار في إثيوبيا، وقال إنه يدرس الخطوات التالية بشأن برنامج تمويل محتمل(34).
2- الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي
يمكن القول: إن الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وضعت مستقبلها السياسي على المحك بالتوقيع على هذه الاتفاقية؛ حيث وُجِّه لها العديد من الانتقادات على خلفية بعض البنود المرتبطة بنزع سلاح قوات التيغراي وفق برنامج محدد وعدم وجود جدول واضح لوصول المساعدات إلى الإقليم(35).
في خطاب توقيع الاتفاق، قال غيتاشوا ردا، المتحدث باسم حكومة تيغراي وعضو الوفد المفاوض: إن الجبهة “قدمت تنازلات مؤلمة”(36)، ولعل أهمها هو تنازلها عن الشروط التي كانت تصفها بأنها غير قابلة للتفاوض، والتي كانت تطالب بتطبيقها قبل إطلاق أي عملية تفاوضية، وتتضمن رفع الحصار وخروج القوات الإريترية والأمهرية من الإقليم، إلى غير ذلك.
ورغم أن ردا عزا ذلك إلى ضغط الوضع الإنساني وأن “بقاءنا كشعب على المحك؛ فإذا كان اتفاق السلام يضمن بقاءنا فلماذا لا نجربه؟!”(37)، فإنه أيضًا لا يمكن استبعاد تفسير هذا التنازل بضخامة الخسائر التي تعرضت لها قوات دفاع تيغراي، وما يؤشر إلى ذلك تغيير تكتيكاتها العسكرية في الفترة التي سبقت توقيع الاتفاق.
في المقابل، ضمنت الاتفاقية لطرف التيغراي العديد من المكاسب، منها:
أ- الاتفاق على دخول المساعدات الإنسانية إلى الإقليم
نصت اتفاقية بريتوريا على تسريع الحكومة لتوفير المساعدات الإنسانية بالتعاون مع الوكالات الإنسانية وأن تتعاون أطراف الاتفاقية لتحقيق هذا الهدف، وأن تضمن هذه الأطراف أن تستخدم المساعدات الإنسانية فقط للأغراض الإنسانية )A5-1-4(، وهو ما تم إعادة تأكيده في اتفاق نيروبي.
ورغم البعد الإنساني المهم في هذه المواد فإنها لا تخفي أهمية البعد السياسي المتمثل في رغبة قيادة التيغراي في الحفاظ على الحاضنة الشعبية داعمة لها، كما أوضح مسؤول في الاتحاد الإفريقي “من الأفضل أن تعرف الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي أنه قريبًا أو آجلًا، لن يكون لديها مدنيون يدعمونها، في الغالب لأن هؤلاء الناس سيموتون من الجوع أو المرض”(38).
ب- رفع الجبهة من قائمة الإرهاب الإثيوبية
حيث نصت الاتفاقية على تسهيل الحكومة لرفع الجبهة من هذه القائمة عبر البرلمان الإثيوبي (A7-2-c).
وهذا الرفع سيمهد لعودة الجبهة إلى ساحة الفعل السياسي داخل إثيوبيا بشكل قانوني، ولاسيما أن الاتفاقية لا تحول دون اشتراك الجبهة في الإدارة الانتقالية للإقليم ولا دون مشاركتها في الانتخابات مستقبلًا.
وكان أهورو كينياتا، عضو الترويكا المسيرِّة للمفاوضات، اقترح العام الماضي على الحكومة الإثيوبية رفع الجبهة من قائمة الإرهاب الإثيوبية مقابل تخليها عن العنف وتجنيد المقاتلين، لكن الحكومة رفضته بحجة أن البرلمان الوطني لم يكن مهيأ بعد لاتخاذ قرار بهذا الشأن، وعندما كرر كينياتا اقتراحه في بريتوريا لقي قبولًا حكوميًّا هذه المرة(38).
ج- تهديد التحالف بين الحكومة الإثيوبية والنظام الإريتري
موقف أسمرة كان منذ البداية الرفض الجذري للتفاوض مع الجبهة وضرورة تصفيتها بشكل كامل باعتبارها خطرًا على إثيوبيا والمنطقة عمومًا، وفق تصريحات الرئيس الإريتري، وبالتالي فإن مجرد عقد جلسات تفاوضية معها سيؤثر بشكل مباشر على العلاقات بين كل من أديس أبابا وأسمرة، والوصول إلى اتفاقية، إن لم تتم مشاورة إريتريا بخصوصها، سيشكِّل منعطفًا في العلاقة بين الطرفين.
د- تهديد التحالف بين رئيس الوزراء الإثيوبي وقوميي الأمهرا
مثَّل قوميو الأمهرا رأس حربة في القتال إلى جانب الجيش الفيدرالي في مواجهة التيغراي، على خلفية طموحاتهم في السيطرة على مناطق حمرة ولقايت ورايا، ذات الأهمية متعددة الأبعاد بالنسبة للأمهرا، وبالنظر إلى أن اتفاقية بريتوريا نصت على عودة النظام الدستوري إلى تيغراي فإن ذلك يتضمن عودة سيطرة الإقليم على تلك المناطق التي تتمركز فيها الآن قوات من الأمهرا والجيش الفيدرالي، وهو ما يعني عمليًّا تهديدًا بتفكك تحالف أحمد وقوميي الأمهرا.
ثالثًا: بنود إشكالية في الاتفاقية
اتفاقية وقف العدائيات على أهميتها لا تنهي الحرب “إنها تخلق ظروف الحل السياسي” وفقًا لقائد قوات دفاع تيغراي(39)، ورغم إعلان الطرفين تمسكهما بإنفاذ بنودها على أرض الواقع، فإنها طرحت مع ذلك العديد من التساؤلات حول كيفية وقدرة الطرفين على تنفيذ بعض البنود الإشكالية، التي أثارت الجدل منذ لحظة الإعلان عن الاتفاقية، وبالتالي قدرة الاتفاقية على الصمود أمام تعقيدات الحالة الإثيوبية.
ومن أهم هذه المواد:
1- نزع السلاح وخروج القوات غير الجيش الإثيوبي من الإقليم
إحدى القضايا الرئيسية في اتفاقية بريتوريا هي نزع سلاح قوات تيغراي وتسريح المسلحين التيغراي وإعادة دمجهم؛ حيث ربطت تنفيذ ذلك بالأوضاع الأمنية على الأرض، وبانسحاب القوات الأجنبية من الإقليم.
لعل هذا البند أخطر ما في اتفاقية بريتوريا والذي أثار الكثير من الجدل حول القدرة على تنزيله على أرض الواقع؛ حيث إن أولى العقبات تمثلت في ارتباط إكمال عملية نزع السلاح والتسريح بانسحاب القوات الأجنبية وغير الجيش الفيدرالي من أراضي الإقليم؛ ما يعني الجيش الإريتري وميليشيات فانو الأمهرية(40).
بالنسبة لإريتريا لم يصدر عنها تصريح حول اتفاقية بريتوريا، ورغم أن الاتفاق يكفل نزع سلاح جبهة التيغراي وإعادة سيطرة الحكومة الفيدرالية على الإقليم، وهو ما يعد نصرًا لأسمرا، لكن بالنظر إلى تصريحات الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، السابقة فإن وجود الجبهة واستمرارها لن يكون مقبولًا من طرف أسمرا، وهو ما يؤيده النظر إلى عاملين أساسيين: نهج الإلغاء الذي يتعامل به النظام الإريتري مع من يعارض سياساته، وكذلك التصريحات الصادرة عن المجلس المركزي للجبهة النافية لإرسال ممثلين عنها إلى بريتوريا رغم أن الدعوة موجهة لها من الاتحاد الإفريقي وليس إلى حكومة الإقليم! وأن الجبهة كذلك لا تمتلك جيشًا، وهي تصريحات تعقد عملية نزع سلاح القوات الموجودة في الإقليم، وبالتالي ترفع منسوب القلق في أسمرا من التزام الجبهة بالاتفاقية.
وبالتالي، فإن السؤال أمام حكومة أديس أبابا هو مدى قدرتها على إقناع/إجبار القوات الإريترية على التخلي عن مواقعها والعودة إلى الحدود الإرترية، وهل الضمانات التي قدمها رعاة الاتفاقية كافية أصلًا لإقناع أديس أبابا بالتخلي عن حليفها الإريتري ليقف الجيش الفيدرالي وحيدًا أمام قوات التيغراي؟
بجانب هذا، فإن نجاح عملية التسريح والدمج يحتاج إلى دعم مالي وتقني كبير لا تبدو إثيوبيا قادرة عليه في وضعها الحالي، وفشل مثل هذا البرنامج قد يمهد الطريق لعودة عدد من هؤلاء المقاتلين إلى التمرد وحمل السلاح من جديد.
2- السيطرة على أراضي غربي وجنوبي تيغراي
تعد السيطرة على مناطق حمرة ولقايت ورايا من القضايا المعقدة لتشابك أبعادها تاريخيًّا واقتصاديًّا ووجدانيًّا، وثمة نزاع حاد بين كل من التيغراي والأمهرا على الأحقية بالتسيد على المنطقتين، وقد تبعتا وفقًا لدستور 1994 إقليم تيغراي، وهو ما يرفضه الأمهرا، وكانت إعادة فرض سيطرتهم على المنطقتين من أهداف تحالف القوميين منهم مع رئيس الوزراء، آبي أحمد، وهو ما تم فعليًّا منذ بداية الحرب، في نوفمبر/تشرين الثاني 2020(41).
الرفض المطلق للتنازل عن السيطرة على هاتين المنطقتين كان أحد أسباب مطالبة القوميين الأمهرا بتمثيل منفصل لهم في مفاوضات بريتوريا(42)، وبما أن نص الاتفاقية على معالجة القضايا المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها وفقًا للدستور الإثيوبي (A10-4) يعني بالضرورة تبعية المنطقتين لتيغراي، فقد أبدت قوى مجتمعية وسياسية تخوفها من هذه الاتفاقية حيث رحبت جمعية أمهرا الأميركية بها لكنها حذرت من أنها ستعارض أي مبادرة لإعادة الأراضي المتنازع عليها إلى تيغراي(43)، في حين اعتبر النائب في البرلمان الإثيوبي عن حزب الحركة القومية للأمهرا، ديسالين داغنو، أن تبعية المنطقتين لإقليم أمهرا “خط أحمر” وأن أي ترتيب لا يعترف بذلك سيؤدي إلى حالة من انعدام السلام الدائم في المنطقة(44).
وهو ما يضع حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي أمام تحدي القدرة على التضحية بتحالفه مع ميليشيات الأمهرا التي شكَّلت رأس حربة في الهجوم على تيغراي، 2020، والوقوف في وجه قواتها، 2021، وكيفية إخراج هذه الميليشيات من المناطق التي تسيطر عليها دون التسبب في تشكل تمرد أمهري مسلح عليها، ولاسيما عند النظر إلى العلاقة الوطيدة بين إريتريا، التي يرجح معارضتها للاتفاقية، وهذه القوى الأمهرية القومية.
3- تكوين لجنة المراقبة وقدرتها على رصد الانتهاكات
نصت الاتفاقية على تشكيل فريق من المراقبين الأفارقة بقيادة الاتحاد الإفريقي لمراقبة تطبيق اتفاقية وقف العدائيات الدائم، يتألف الفريق من 10 أعضاء قابلين للزيادة، وتمتد ولايتهم لستة أشهر من بدء عملهم، وتتمثل مهمتهم في تنبيه أي طرف في حال ملاحظة قيامه بانتهاك لاتخاذ الإجراءات لإزالته خلال 24 ساعة، وإلا فسيقوم بإعلام الاتحاد الإفريقي ليحل الإشكال عبر اللجنة العليا (A11-1-9).
وبالنظر إلى أن ساحات القتال في تيغراي تتميز بوجود جبهات واسعة وممتدة وتضم عددًا من الفاعلين مختلفي الأهداف وأجنحة رافضة لمخرجات الاتفاقية في معسكري الجبهة والحكومة، فإن صغر حجم فريق المراقبين يثير التساؤلات حول قدرته على القيام بمهام المراقبة والتحقق في الوقت المناسب، و”إلزام طرفي الاتفاق بالالتزام باستكمال كافة بنود الاتفاق الحالي والانخراط في المراحل التالية قبل التوصل لتسوية نهائية ودائمة”(45).
4- آلية العدالة والمحاسبة
أكدت اتفاقية بريتوريا على توفير إطار يضمن “المساءلة عن المسائل الناشئة عن النزاع” (A1-7)، كما نصت الاتفاقية أيضًا على وجوب تطبيق الحكومة “سياسة وطنية شاملة للعدالة الانتقالية تهدف إلى المساءلة، والتأكد من الحقيقة، وإنصاف الضحايا، والمصالحة، وتضميد الجراح” (A10-3).
إنجاز هذا على أرض الواقع قد يواجَه بالعديد من العقبات، لعل أهمها أن تقارير منظمات حقوقية اتهمت جميع أطراف الصراع بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات مختلفة في سياق الحرب، في حين لم يعترف أي منهم بالانتهاكات المنسوبة إلى قواته، وهو مما يعقِّد من مهمة أي لجنة تحقيق في المستقبل.
في حين تظل هناك مخاوف من أن تتم تسوية الملف سياسيًّا بين طرفي الصراع الرئيسيين، مما يحرم الضحايا من الوصول إلى حقهم في الإنصاف ويؤدي إلى إفلات الجناة من العقاب، وما قد يكرس من جهة أخرى ارتكاب الانتهاكات في بلد يعاني من العديد من البؤر المشتعلة كإثيوبيا.
رابعًا: السيناريوهات المتوقعة
نتيجة تعقد الصراع الإثيوبي وتعدد الفاعلين ذوي الأهداف المتباينة، حتى داخل المعسكر الواحد، يبدو مستقبل هذه الاتفاقية مفتوحًا على العديد من السيناريوهات التي يصعب الجزم بأحدها، وأهمها:
1- مضي الطرفين في إنفاذ الاتفاقية
وهو ما سيؤثر سلبًا على تحالف أديس أبابا وأسمرة وقوميي الأمهرا، بحيث قد نشهد بناء تحالفات جديدة بين رئيس الوزراء، آبي أحمد، والتيغراي، من جهة، مقابل النظام الإريتري وقوميي الأمهرا، من جهة أخرى، وسيترتب على ذلك حصول محور أديس-مقلي على دعم دولي للقضاء على أي تمرد للأمهرا ومحاصرة نفوذ إريتريا داخل إثيوبيا، في حين تستبعد المشاركة الإريترية المباشرة في المعارك وتحول الحرب إلى مواجهة بين دولتين.
2- انهيار الاتفاقية
بالنظر إلى فشل التفاهمات السابقة بين الطرفين فقد تكون هذه الاتفاقية أشبه باستراحة مرحلية، تتخفف فيها الحكومة الفيدرالية من بعض الضغوط، في حين يوفر هدوء الجبهات الفرصة لقوات دفاع تيغراي لإعادة ترتيب صفوفها وإيصال المساعدات إلى إقليم تيغراي بما يهيئها للمعركة القادمة.
وفي هذا السيناريو قد يكون الانهيار نتيجة عجز أو رفض أحد الطرفين الوفاء بتعهداته، ويتوقع في هذه الحالة أن يمارس رعاة الاتفاقية ضغوطًا كبيرة على هذا الطرف لتدارك الانزلاق إلى جولة جديدة من الحرب الشاملة.
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات