عُقدت أولى جلسات مجلس النواب اللبناني المخصصة لانتخاب رئيس جديد خلفاً للرئيس ميشال عون الذي تنتهي ولايته، في 31 تشرين الأول/أكتوبر 2022، يوم الخميس 29 أيلول/سبتمبر، بعدما دعا إليها رئيس مجلس النواب، نبيه بري، والذي آثر طوال أيلول/سبتمبر 2022 تأجيل هذه الدعوة انتظاراً لحدوث الحد الأدنى من التوافق داخلياً وخارجياً، الأمر الذي يسمح بانتخاب الرئيس. وبينما فضّلت القوى السياسية اللبنانية تأمين النصاب القانوني اللازم لانعقاد الجلسة (أغلبية ثلثي الأعضاء) على عكس دورات انتخابية سابقة كانت تلجأ فيها القوى إلى عدم تأمين النصاب اللازم لانعقاد الجلسة لإفشالها في ظل غياب التوافق، فإن حضور نحو 122 نائباً من أصل 128 نائباً لم يساهم في انتخاب رئيس جديد للبنان.
مواقف مسبقة
عكست نتائج التصويت، في جلسة 29 أيلول/سبتمبر، إلى حد كبير المواقف التي تتبناها كل كتلة نيابية بشأن اختيار رئيس الجمهورية، أو عكست، بمعنى آخر، طبيعة التحالفات التي تمت داخل مجلس النواب اللبناني منذ نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة التي عُقدت في أيار/مايو 2022، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- أكثرية بيضاء: عمدت الكتل النيابية لقوى 8 آذار، وهي حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر وحزب الطاشناق وتيار المردة وعدد من المستقلين التابعين لهم إلى الاقتراع بأوراق بيضاء، وعدم تسمية أي مرشح لرئاسة الجمهورية، وهو ما يعكس التباين الحاد في المواقف بين هذه الكتل بشأن رئيس الجمهورية القادم، خاصة بالنسبة للتنافس الشديد بين رئيس تيار المردة، سليمان فرنجية، ورئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل؛ إذ يصر الرئيس، ميشال عون، على أن يكون صهره باسيل هو الرئيس القادم، فيما يدعم رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل، نبيه بري، سليمان فرنجية في هذا المعترك، أما حزب الله فلم يحسم، حتى الآن، خياره بشأن المرشح الذي سيدعمه، وإن كانت أوساطه ترجح كفة فرنجية على حساب باسيل.
ولكن على الرغم من هذا الانشقاق الداخلي، استطاعت هذه الكتلة أن تظهر موحدة في هذه الجلسة شأنها شأن كل الاستحقاقات الماضية التي استطاع فيها التحالف أن يظهر متماسكاً، وأن يفرض أغلبيته، حتى وإن كان في الحدود الدنيا، مثلما حدث في اختيار رئيس مجلس النواب، أو في الاستشارات النيابية لترشيح رئيس للحكومة.
2- مرشح إنقاذي: طرحت القوى السيادية أو المعارضة في لبنان، والمتمثلة بشكل رئيس في حزبي القوات والكتائب بالإضافة إلى الحزب التقدمي الاشتراكي وبعض النواب المستقلين اسم النائب ميشال معوض لرئاسة الجمهورية، فحصد اسم معوض 36 صوتاً في جلسة الانتخاب. بما يشير إلى قدرة هذه القوى على التوافق فيما بينها خلال هذا المعترك الانتخابي بالنظر إلى أنها كلها تضع مواصفات واحدة لرئيس الجمهورية القادم في لبنان بأنه يجب أن يكون سيادياً إصلاحياً تغييرياً إنقاذياً، وليس بالمواصفات التي جاء بموجبها العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية.
ولم يكن اسم ميشال معوض متداولاً بشكل كبير قبل أيام من جلسة الانتخاب كمرشح للرئاسة، وهو ما يفتح الباب أمام فرضيتين، الأولى أن يكون هذا الطرح مؤقتاً ومحدداً فقط بجلسة 29 سبتمبر لكي تُظهر هذه القوى أنها متفقة فيما بينها على مرشح، أو يكون اختياره خياراً دائماً بالنسبة لهذه القوى خلال المعترك الانتخابي في أي جلسات مستقبلية.
3- انقسام تغييري – سني: كان الانقسام في المواقف داخل القوى التغييرية والنواب السنة هو الحاكم في الاستحقاقات كافة التي شهدها البرلمان اللبناني منذ الانتخابات الأخيرة، وهو ما أضعف للغاية من المكتسبات التي حققها النواب التغييريون، على وجه الخصوص، في هذه الانتخابات؛ إذ لم يستطع التغييريون تكوين كتلة كبيرة لها وزن داخل البرلمان من جهة، ولم يتمكنوا من الالتفاف حول أهداف وسياسات موحدة مع نواب القوى السيادية المعارضة من جهة أخرى.
وظهر ذلك بوضوح في عزوف هؤلاء النواب عن تسمية ميشال معوض، واختيارهم مرشحاً بديلاً هو رجل الأعمال، سليم إدة، نجل الوزير السابق ميشال إدة. أما النواب السنة ففضلوا إبطال أصواتهم، ولكن حتى لا تُحسب أوراقهم مع الأوراق البيضاء الخاصة بقوى 8 آذار، أبطلوا أصواتهم من خلال كتابة “لبنان” على الأوراق التي بلغ عددها 10 أصوات، وصوتان سنيان آخران كتبا “على نهج رشيد كرامي” و”مهسا أميني”.
ملامح المستقبل
توضح خريطة التحالفات التي عبّر عنها تصويت النواب في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، فضلاً عن المشهد الذي بدا بعد انتهاء الجلسة، من دعوة بعض النواب إلى عقد الجلسة الثانية لانتخاب الرئيس، والتي يكون الانتخاب فيها بأغلبية أقل وعدم تحقق ذلك لمغادرة عدد كبير من النواب بعد انتهاء الجلسة؛ أن هذه الجلسة ما هي إلا تحقيق لإطار شكلي يوضح من خلاله رئيس مجلس النواب، نبيه بري، أنه ليس مسؤولاً عن تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية، ويظهر عبره أن عدم التوافق بين القوى اللبنانية هو السبب الأساسي وراء عدم انتخاب رئيس الجمهورية، حتى الآن، والذي قد يتجاوز المهلة الدستورية.
وتؤكد هذه الجلسة حقيقة أنه ليس بإمكان أي تحالف أو تكتل أن يؤمن النصاب اللازم لإيصال مرشحه إلى رئاسة الجمهورية، وهي الحقيقة التي كانت حاضرة بنسب متفاوتة في الاستحقاقات الرئاسية اللبنانية السابقة كافة وحاضرة الآن بصورة أكبر في ضوء الانقسام الحاد داخل مجلس النواب اللبناني. وفيما كان انتخاب رئيس لبنان محكوماً دائماً بتوافقات خارجية في المقام الأول، فإن الأمر في الانتخابات الحالية لا يخرج عن هذا الإطار، بل يمكن القول إن انتخاب رئيس لبنان يتوقف بصورة كبيرة على نتائج بعض الملفات ذات الصبغة الإقليمية والدولية.
وبناء على ذلك يمكن رسم سيناريوهين لمسار انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان:
1- انتخاب ضمن المهلة الدستورية: يدخل مجلس النواب قسرياً في حال الهيئة الناخبة، وفق المادة 65 من الدستور، في 20 تشرين الأول/أكتوبر 2022، أي العشرة أيام الأخيرة قبل انتهاء ولاية الرئيس الحالي، ما يجعل هامش الوقت محدوداً للغاية أمام القوى اللبنانية والدولية لإنجاز المشاورات التي قد تفضي إلى توافقات في هذا الشأن. ولكن ما قد يحفز هذا الأمر الضغوط الدولية التي تُمارس على القوى اللبنانية لانتخاب رئيس الجمهورية، والتي عبّر عنها بشكل واضح البيان الثلاثي الصادر عن المملكة العربية السعودية وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والذي أكد ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية في الوقت المناسب، بما يتوافق مع الدستور.
ويضاف إلى ذلك رغبة رئيس البرلمان، نبيه بري، في إثبات حرصه على إتمام الاستحقاق الرئاسي، وهو ما عبّر عنه تصريحه بأنه يعتزم الدعوة إلى جلسة جديدة لانتخاب الرئيس في منتصف أكتوبر. ومن الممكن قراءة المشاورات التي تجريها القوات منذ انتهاء جلسة 29 سبتمبر بأنها تحضير فعلي لهذا الأمر، ومنها اللقاءات التي جمعت الكتلة النيابية لحزب القوات مع كتلة “الاعتدال الوطني”، التي تمثل النواب السنة الأعضاء السابقين بتيار المستقبل للتوافق على رئيس جديد يتوافق مع أجندات الكتلتين، وهو ما قد يتمثل في ميشال معوض، كما طُرح في الجلسة الأولى من جانب القوى السيادية أو مرشح آخر يتفق عليه الجانبان.
2- الوصول إلى الفراغ الرئاسي: يبدو سيناريو العجز عن التوافق على رئيس للجمهورية ضمن المهلة الدستورية مطروحاً بقوة؛ في ضوء الانقسام الحاد الذي ظهر، في جلسة 30 سبتمبر، والتباين الحاد في المواصفات المطروحة لشخص الرئيس بين كل فريق، وعدم وجود اتفاق بين القوى الإقليمية والدولية على مرشح توافقي مثلما جرت العادة في الاستحقاقات السابقة، وذلك بالنظر إلى تعقد عدد من الملفات، مثل المفاوضات النووية بين إيران والقوى الكبرى.
وما يحفز هذا الطرح أن الاستحقاقات الدستورية الأخيرة أثبتت أن الفريق الأكثر قدرة على تأمين أغلبية داخل البرلمان هو فريق قوى 8 آذار بقيادة حزب الله، والذي لن يسمح بوصول رئيس معارض لمشروعه، وهو ما تعبر عنه تصريحات نصر الله يوم 2 أكتوبر بأن الجلسة النيابية أكدت أن “من يريد انتخاب رئيس للبنان يجب أن يبتعد عن منطق التحدي وعن رؤساء ومرشحي تحدي، وكيف تبني بلداً مع رئيس تحدي يريد تحدي جزءاً كبيراً من الشعب اللبناني المؤيد للمقاومة”.
وتدخل ضمن المحفزات كذلك عودة سعي حزب الله إلى تسريع وتيرة تشكيل الحكومة قبل 20 أكتوبر المقبل، ولذلك عادت المشاورات من جديد بين رئيس الوزراء المكلف نجيب ميقاتي والرئيس ميشال عون؛ لكون هذا الملف يحتل أولوية بالنسبة لحزب الله عن اختيار الرئيس لارتباطه بملف ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. هذا بالإضافة إلى أن ميقاتي بات يتحسب لعرقلة تشكيل الحكومة وأكد من خلال بيان أمانة مجلس الوزراء يوم 28 سبتمبر أن من حق حكومة تصريف الأعمال الحالية تولي مهام رئاسة الجمهورية في حال تعذر انتخاب رئيس جديد.
وفي الختام، حددت جلسة انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية 30 سبتمبر بدقة طبيعة التحالفات والاصطفافات داخل مجلس النواب، في ضوء عدم وجود الحدود الدنيا من التوافق التي تسمح باختيار الرئيس. وتبدو احتمالات تعذر انتخاب الرئيس ضمن المهلة الدستورية أقرب من غيرها، ولكن على الرغم من ذلك فإن ديناميات المشهد اللبناني قد تتغير بصورة سريعة على وقع مؤثرات خارجية وداخلية وقد يتم التوصل إلى مرشح توافقي في اللحظات الأخيرة.
المصدر: مركز المستقبل للأبحاث