لماذا تطبع تركيا علاقاتها مع إسرائيل الآن؟

أفاد رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لبيد، في 17 آب/ أغسطس 2022، إن بلاده قررت استئناف العلاقات الديبلوماسية مع تركيا بشكل كامل، بعد 14 عاماً من التأزم السياسي.

وقال لبيد في سلسلة من التغريدات عبر حسابه في تويتر: “بعد اتصالي برئيس تركيا إردوغان، قرر الطرفان إعادة إرسال السفيرين والقنصلين العامين”.


هذا التطبيع ليس وليد اليوم، بل بدأ بالبروز منذ بضعة شهور، بالتحديد حين قام الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هيرتسوغ، بزيارة إلى تركيا لمدة يومين، ويسعى البلدان بالإجراء المُعلَن اليوم، إلى فتح صفحة جديدة وتطبيع علاقاتهما، بل، وإعادة مظهريتها إلى ما كانت عليه، قبل العام 2008.
بالمقابل، ومن جهته قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، إن كلاً من تركيا وإسرائيل ستعيد تعيين سفير لدى الأخرى في خطوة مهمة في جهود البلدين لتطبيع العلاقات.
وأضاف جاويش أوغلو: “تعيين السفيرين إحدى خطوات تطبيع العلاقات، جاءت هذه الخطوة الإيجابية من إسرائيل نتيجة لهذه الجهود، وقررنا كتركيا أيضاً تعيين سفير لدى إسرائيل في تل أبيب، وبدأنا عملية تحديد من سنعينه”.
ولعل من أبرز ردود الفعل، بيان أصدرته حركة المقاومة الإسلامية، حماس، “تبارك” فيه عودة العلاقات بين تركيا (حليف الأيديولوجيا)، وإسرائيل (الطرف الذي حُيدَت عن قتاله في غزة مؤخراً)، وهو ما يعكس ترحيب الحركة بوساطات جديدة في القطاع، خاصة مع ذكر كون التطبيع الحادث يصب في مصلحة الفلسطينيين، وبالتالي، فقد بدأت القطيعة بين الأتراك والإسرائيليين من غزة، وستلقي بظلالها أيضاً عليه- كما هو مرجح-، في المستقبل المنظور.
ويمكن فهم “مفردات” البيان الخاص بالحركة، في سياقات، منها، التناقض، فالحركة تبارك تطبيع تركيا، وتهاجم أي تعاون، لدول أخرى(مناطقياً)، مع تل أبيب، وبعبارة أخرى، مقتضبة، فإن بيان حماس “أيديولوجي” النزعة.

تركيا وإسرائيل: علاقات سياسية (شائكة) بين الجانبين، منذ أكثر من عِقد
في ديسمبر/ كانون الأول من العام 2008 وحين زار رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود أولمرت تركيا واجتمع بنظيره التركي رجب طيب أردوغان الذي كان حينها رئيساً للحكومة، تم اتخاذ خطوات مهمة في مجال الوساطة التركية بين سوريا وإسرائيل.
لكن بعد خمسة أيام فقط من تلك الزيارة بدأت إسرائيل عملية عسكرية في قطاع غزة، أدت إلى حدوث شرخ في العلاقة التركية الإسرائيلية. إذ أن رد فعل تركيا الحاد على ذلك أدى إلى توتر علاقة البلدين لسنوات عديدة.
كذلك، مرَّت العلاقات (السياسية) بين أنقرة، وتل أبيب، بالعديد من محطات التوتر منذ القطيعة التي أعقبت قتل إسرائيل لعشرة نشطاء أتراك على سفينة مافي مرمرة في أيار/مايو 2010، وبالرغم من إعادة تطبيع العلاقات، بالعام 2016، إلا أن الاعتداء الإسرائيلي على مسيرات العودة، في العام 2018، قاد إلى طرد أنقرة للسفير الإسرائيلي، لترد تل أبيب حينذاك، بالإجراء ذاته.
هذا، ولم تتسم الفترات الماضية بالقطيعة الديبلوماسية والسياسية فحسب، بل شهدت عديدًا من التصريحات الحادة بين الطرفين، إضافة إلى توقف التنسيق الاستخباري والأمني بينهما- أو أن هذا هو المعلن إن أردنا الدقة- بعد أن كان لهما تاريخ طويل من الشراكة الاستراتيجية.
وقد عزَّز من هذا التباعد حالة الاستقطاب الحاد الذي يعيشه الإقليم، وانقسامه على ثلاث من القضايا، هي: الموقف من القضية الفلسطينية، والموقف من الحراكات العربية، إضافة إلى الأزمة الخليجية، ليجد الجانبان نفسيهما على طرفي نقيض في القضايا الثلاث.


القدس في قلب دعاية إردوغان، وباراجماتية سياساته
وكلما تعرضت شعبيته بالداخل للاهتزاز، يغتنم الرئيس التركي أي فرصة لربط البروباجندا السياسية خاصة حزبه إسلاماوي التوجه -العدالة والتنمية- بمكانة القدس، لاسيما لدى المسلمين، ففي كانون الأول/ديسمبر 2017، زعم إردوغان قيادة المعارضة الإسلامية لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب نقل سفارة بلاده في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، وإعلانه القدس كاملة عاصمة لإسرائيل.
وفي 14 أيار/مايو 2018، وهو اليوم الذي شهد افتتاح السفارة الجديدة في القدس، اتهم إردوغان إسرائيل بـ”إرهاب الدولة” و”الإبادة الجماعية” بعد مقتل عشرات الفلسطينيين بنيران إسرائيلية، وعادت العلاقات الديبلوماسية للتوتر، واستدعى البلدان سفيريهما.
واستمر تدهور العلاقات لا سيما بعد إقرار البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) في تموز/يوليو من العام ذاته، قانون القومية الذي يعرّف إسرائيل على أنها الدولة القومية لليهود.
ويشكّل العرب الفلسطينيون 20 في المئة من سكان إسرائيل البالغ تعدادهم 9,3 مليون نسمة، وهم أحفاد الفلسطينيين الذين بقوا في أراضيهم بعد إعلان قيام إسرائيل في العام 1948.


تناقض وتبادل تجاري متنامي:


وفيمَ فرقتهما السياسة، فإن العلاقة الاقتصادية، والتجارية بين أنقرة، وتل أبيب، لم تبرح حالة (الدفء)، بل والازدهار، ففي يوليو/تموز، الفائت، قالت إسرائيل، إنها ستعيد فتح مكتبها الاقتصادي والتجاري في تركيا، في خطوة وصفها المراقبون بالسعي لرأب الصدع بينهما.
إلا أن التوتر بين الطرفين، لم يلحق في واقع الأمر سوى بالسياسة، ففي أيار/مايو من العام الجاري، أُعلِن قفز حجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل إلى 10 مليارات دولار خلال 2021 مقابل 6.2 مليار دولار خلال عام 2020.
وقال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، خلال لقائه مع نظيره الإسرائيلي يائير لابيد، بالتزامن، إن حجم التبادل التجاري بين بلاده وإسرائيل بلغ 10 مليارات دولار، مضيفاً أن تطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل سيكون له “أثر إيجابي” من أجل حل “سلمي” للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
كما كشفت إحصائية، أن تركيا تحتل المركز الأول من حيث التبادل التجاري مع إسرائيل على مستوى الدول الإسلامية.
وخلال العام 2017، -أي في خضم التوتر السياسي بينهما-، شهد حجم التبادل التجاري بين أنقرة وتل أبيب زيادة بلغت 14 في المئة في الوقت الذي وصف فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إسرائيل بـ “دولة الاحتلال والارهاب”.
وبلغت الصادرات الإسرائيلية لتركيا خلال ال2017 ما قيمته 1.4 مليار دولار، في مقابل واردات إسرائيلية من تركيا بحوالي 2.9 مليار دولار.
وهي في اتجاهي الصادرات والواردات، تزيد عن 4 بلايين دولار وتتجاوز كثيرًا دولًا أخرى مثل، أذربيجان ونيجيريا ومصر وأندونيسيا والأردن التي تأتي بعد تركيا في حجم الصادرات الإسرائيلية لها.
كما تتصدر تركيا قائمة الدول الإسلامية في حجم الواردات الإسرائيلية منها، وإجمالاً، فقد شهدت التبادلات التجارية، بين الجانبين-حتى مع إغلاقات تفشي كوفيد- تنامياً كبيراً.
وتبقى إسرائيل شريكا تجاريا هاما لتركيا، ففي عام 2021 تم تحقيق رقم قياسي جديد في التبادل التجاري بين البلدين، والذي وصل إلى 8,1 مليار دولار.
لذلك سيكون هناك حديث عن تعزيز وتوسيع العلاقات التجارية والاقتصادية بين تركيا وإسرائيل، ومن المتوقع أيضا الحديث عن تعزيز التعاون بين البلدين في مجال الطاقة.
أيضاً، أكدت البيانات الرسمية الصادرة عن معهد الإحصاء التركي وجمعية المصدرين الأتراك والبنك المركزي أن العلاقات الاقتصادية وحجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل يزداد قوة، ويدعمه تصاعد حجم الاستثمارات المباشرة المتبادلة بين البلدين.
ووصلت صادرات تركيا إلى إسرائيل أعلى مستوى لها على أساس شهري في أبريل/نيسان 2022، ببلوغها 711 مليون و200 ألف دولار.


مدلولات التوقيت: لماذا يعلن الجانبان تطبيعهما الآن؟
تزامن التناقض بين العلاقات السياسية، والاقتصادية للبلدين، مع الاكتشافات المتلاحقة لحقول الغاز الطبيعي شرق البحر المتوسط منذ 2010، والتي قُدِّرت بقرابة 122.4 تريليون قدم مكعب، تقع غالبيتها ضمن جغرافيا معقدة ومساحات مائية متنازع عليها.
وتنطوي الرؤية التركية للتعاون مع إسرائيل في ملف غاز المتوسط على اتجاهين:
الأول: يتمثل بإنشاء خط أنابيب بحرية ينقل الغاز الإسرائيلي من حقل ليفيثيان إلى البر التركي، بحيث تشتري تركيا حصة منه للاستخدام المحلي، وتصدِّر حصة أخرى إلى أوروبا مستفيدة من خطوط أنابيب الغاز العابرة للأناضول الموجودة أصلًا.
وطُرِحت هذه الفكرة على طاولة النقاش بين تركيا وإسرائيل، خلال العام 2013، حيث خاضت شركة “زورلو” القابضة المقربة من الحكومة التركية شهورًا من المفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية لبناء خط أنابيب بتكلفة 2-2.5 مليار دولار، وبسعة نقل تتراوح بين 8-10 مليارات متر مكعب/سنويًّا، وبطول 130 كيلو مترًا، يمتد من حقل ليفيثيان مقابل شواطئ تل أبيب إلى ميناء جيهان التركي، حيث يتصل مع خط أنابيب TANAP الذي ينقل الغاز الأذربيجاني نحو أوروبا، والذي كان مقترحًا على الورق آنذاك، وجرى تشغيله عام 2019.
وحيث إن شركة النفط الحكومية لأذربيجان، التي تعد حليفة استراتيجية لتركيا، تمتلك 58٪ من أسهم TANAP بينما تمتلك شركة أنابيب البترول الحكومية التركية قرابة 30٪ منها، بالإضافة لوجود فائض بالسعة التشغيلية لا يبدو أن أذربيجان ستكون قادرة على استغلاله في المدى المنظور، فإن أنقرة تدفع باتجاه استخدام TANAP لنقل الغاز الإسرائيلي نحو أوروبا دون الحاجة لبنية تحتية إضافية؛ مما يجعل هذا المسار أكثر منافسة من حيث الجدوى الاقتصادية من “إيست ميد”.
الثاني: تراهن تركيا على أن مشروعًا لاستهلاك وتصدير الغاز الإسرائيلي عبر أراضيها سيقوِّي من موقفها من النزاع على الغاز، ولن يتركها وحيدة خارج حلف سياسي وأمني يتشكل في شرق المتوسط في معزل عنها، كما يأمل صانع القرار بأن يؤثر ذلك على موقف القاهرة المتجاهل للرغبة التركية بتوقيع اتفاقية ثنائية لترسيم الحدود البحرية.
لكن الأهم هنا أن بناء خط أنابيب يربط الحقول الإسرائيلية بالبر التركي، سيعني بالضرورة الحصول على موافقة جمهورية قبرص؛ إذ تفيد المادة 79/3 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار بأن خطوط الأنابيب يجب أن تحصل على موافقة الدول التي تمر عبر المنطقة الاقتصادية الخاصة بها، وهي الموافقة التي إن تمت، فستعني استعداد الجانب القبرصي ومن خلفه اليوناني للنظر في المطالب التركية، وهذا بالتحديد كما قد يكون -بقدرٍ ما- ضمانًا لتسوية الخلافات العالقة بين الجانبين، فإنه قد يكون أيضًا الصاعق الذي ينسف أية إمكانية لتحويل المشروع التركي-الإسرائيلي إلى حقيقة.
وفي المقابل، تريد إسرائيل من تعاونها مع تركيا، ما يأتي:
الاكتفاء الذاتي أولًا والتصدير ثانيًا: وضعت إسرائيل الكثير من القيود على عملية التصدير، وجعلت أولويتها سدَّ احتياجات السوق المحلية. فمنذ اكتشاف حقل “ماري-ب”، عام 2000، اتجهت حصرًا للإنتاج الداخلي، واستمرت في عمليات التنقيب والتطوير سعيًا لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز. وبعد توسع الاكتشافات بما يفوق بكثير الاحتياجات المحلية، اعتمدت، عام 2013، قرارًا يقضي بألا تتجاوز نسبة التصدير 40٪ من إجمالي الانتاج، وخصَّصت حقل تامار ثاني أكبر الحقوق المكتشفة للسوق المحلية.
أيضاً، التصدير عبر الأنابيب وليس الإسالة: تدرك إسرائيل التحديات الأمنية التي تحيط بساحلها، لذلك اختارت ألا تقوم ببناء محطات إسالة برية أو عائمة، ورجَّحت تصدير الغاز عبر أنابيب وإسالة الفائض منه في محطتي إدكو ودمياط المصريتين، وذلك تجنبًا للمخاطر الأمنية والبيئية التي قد يسبِّبها استهداف محطات الغاز، وهذا أحد أسباب حماسها لمشروع “إيست ميد”؛ إذ يضمن تدفقًا بكميات جيدة من الغاز دون الحاجة لبناء محطات إسالة.
وأخيراً، يريد الطرفان التركي، والاسرائيلي الغاز كأداة للنفوذ الإقليمي: لم تنتقل إسرائيل لتصدير الغاز إلا بعد عقدين من الاكتشافات، فأبرمت صفقتين للتصدير مع كل من الأردن ومصر، عامي 2016 و2018 على التوالي، صادقت على أن تصدِّر بموجبهما ما مجموعه 10 مليارات متر مكعب سنويًّا من الغاز إلى البلدين ولمدة 15 عامًا، وفي السياسة:
يتبنى هيرتسوغ، وإردوغان الرؤية نفسها للمسألة الأوكرانية، مما يؤهلهما لوساطة ربما تأتي “مشتركة”، أما في القضية الفلسطينية، فإن الطرف الإسرائيلي، ربما يريد استبدال الوسيط المصري، التي سجل نجاحات مراراً في قطاع غزة، وبالأخير، يمكن القول بأن، الغاز هو الكلمة السر في التطبيع الرسمي بين أنقرة، وتل أبيب، التي ترغب بناء على الضغط الأميركي، في تحييد صراعها مع حزب الله – بعد إحتلالها حقل كاريش- عن شرق المتوسط، وكذا، منتدى شرق المتوسط للغاز عن حصصها من هذا الأخير، أما تركيا، فتريد القفز على التحالف المصري، مع قبرص واليونان، والالتفاف عليه، بتعاون أكبر مع الحليف القديم، تل أبيب.