الكابوس لم يأت بعد.. أمن أوروبا تائه في الأطلسي ومعلق على تايوان

مسألة الأمن على رأس أجندة الاتحاد الأوروبي منذ الحرب الروسية الأوكرانية، لكن اتخاذ خطوات ثورية مرهون بعوامل جغرافية وسياسية وتاريخية.

واعتبر تحليل نشرته مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية أن الاختبار الحقيقي لأوروبا لم يأت بعد، وتساءل التحليل الذي كتبه راديك سيكورسكي، عضو بولندي في البرلمان الأوروبي وشغل منصب وزير الدفاع ووزير الخارجية ورئيس البرلمان في بولندا، عما إذا كانت القارة العجوز ستصبح جادة بشأن أمنها الخاص.

وكتب سيكورسكي أنه تم تدشين مؤسسات في أعقاب الحرب العالمية الثانية لربط دول القارة معاً بإحكام، حيث يستحيل اندلاع حرب أخرى بين الأوروبيين، وقد نجح التكتل ببراعة في ذلك.

واستطرد قائلا “لكن توهم أوروبا بعد الحرب الباردة بأنها وصلت إلى هضبة السلام الأبدي تحطم للأسف بعد اندلاع حرب أوكرانيا”. 

توقعات قاتمة للأمن

وأصبحت التوقعات الاستراتيجية للقارة، سواء في الجوار أو على مستوى العالم، أكثر قتامة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، وما ارتبط بها من تداعيات جيوسياسية.

وفي ذلك السياق، اعتبر سيكورسكي أن أمن أوروبا وقوتها وازدهارها في المستقبل يعتمد الآن على مدى سرعة عملها على معالجة نقاط ضعفها.

وأشار إلى أن حجم التحدي يتجاوز بالتأكيد قدرة أي دولة أوروبية تعمل بمفردها، فلا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال العمل معاً، وبالتالي يجب على أوروبا أن تحول نفسها من كونفيدرالية ضعيفة عسكريا إلى قوة عظمى حقيقية.

وأعاد التحليل التذكير أن بروكسل استبعدت مخاوف الأوروبيين الشرقيين الذين حذروا الأصدقاء في أوروبا الغربية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل سنوات من الحرب الأوكرانية. 

ومنذ فبراير/شباط 2022 (حيث أطلقت موسكو عملية عسكرية في أوكرانيا) أصبح التهديد الروسي واضحا، على ما يرى المحلل، وكذلك ضعف نظام الدفاع الأوروبي، وعلى الرغم من أن أوروبا قدمت مساهمات عسكرية وإنسانية كبيرة لأوكرانيا، إلا أن الولايات المتحدة كانت المنظم والمنسق الرئيسي لدعم كييف ضد روسيا.

ووفقاً لمعهد كييل للاقتصاد العالمي يبلغ إجمالي مساعدات الولايات المتحدة لأوكرانيا أكثر من 70 مليار دولار، أي ما يعادل تقريباً مساهمات الاتحاد الأوروبي الإجمالية (مساهمات مؤسسات الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء مجتمعة).

التزام أمريكي غير مضمون

وكتب سيكورسكي أيضا أن التزام واشنطن بمثل هذا الدفاع الحماسي عن أوكرانيا هي مسألة حظ جزئياً، فإذا كان دونالد ترامب (الرئيس الأمريكي السابق الذي يسعى للعودة إلى البيت الأبيض في سباق 2024) في منصبه ربما قام وقتها برحلة إلى موسكو بدلاً من كييف.

ولكن حتى مع وجود الرئيس جو بايدن في البيت الأبيض، والحديث لسيكورسكي، ربما لم يكن رد فعل الولايات المتحدة على حرب أوكرانيا بهذه القوة، إذا كان انسحابها من أفغانستان أقل إذلالاً.

وفي المستقبل، قد يكون ترامب الرئيس القادم للولايات المتحدة، وليس هناك ما يضمن أن يستمر الدعم الأمريكي لأوكرانيا في أوكرانيا، وفق المصدر ذاته.

كما أنه في المرة القادمة قد تجد أوروبا نفسها وحيدة إذا حدث سيناريو مثل ضم الصين لتايوان، الذي قد يترك الولايات المتحدة بدون الموارد اللازمة لمساعدة أوروبا، فقد تخلى البنتاغون رسمياً عن هدف التمكن من خوض حربين رئيسيين في وقت واحد.

التحليل قال إنه “لهذا السبب، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يكون جاداً بشأن الدفاع، إذ إنه لا يزال يفتقر إلى القدرة الدفاعية القوية والنهج المشترك للأمن”.

“بيسكو”

وكانت ثمة محاولة بشأن الأمن الأوروبي تتمثل في آلية التعاون المنظم الدائم “بيسكو PESCO”، ففي عام 2009 اقترحت بولندا وفرنسا إنشاء مجموعة طليعية من الدول التي ترغب في التصرف عندما لا ترغب بقية دول الاتحاد الأوروبي.

وتضم المجموعة الدول التي أنفقت 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، ووافقت على قواعد الاشتباك المشتركة، ونشرت جنودها تحت قيادة مشتركة، وشمل البرنامج -الذي تم إطلاقه في عام 2017 بناء على المقترح السابق- جميع الدول الأعضاء تقريباً، لكن الأمر لم يسر كما كان مخططا بسبب مواقف دول محايدة عسكريا داخل التكتل وأخرى متحفظة.

حرب أوكرانيا

في أعقاب اندلاع حرب أوكرانيا، اعتمد الاتحاد الأوروبي البوصلة الاستراتيجية للأمن والدفاع، والتي تهدف إلى تعزيز التنقل العسكري داخل الاتحاد الأوروبي، وتسهيل التدريبات الحية في البر والبحر، وقبل كل شيء إنشاء ما يسمى التدخل السريع، وهي قوة انتشار قوامها حوالي 5000 جندي.

وتعد المبادرة “قفزة نوعية إلى الأمام” في الأمن الأوروبي، وتستند إلى مرفق السلام الأوروبي، وهو صندوق دفاع تزيد قيمته قليلاً عن مليار دولار في السنة، وتم تصميمه في الأصل كآلية لدفع التكاليف العامة لعمليات الاتحاد الأوروبي، ومعظمها في أفريقيا والبلقان، قبل أن تتطور إلى المكافئ الأوروبي لبرنامج التمويل العسكري الخارجي الأمريكي، حيث يمول الصندوق حاليا، شراء وإصلاح الأسلحة لأوكرانيا وكذلك للجيش.

من خلال تقديم هذه المساعدة تجاوز الاتحاد الأوروبي حاجزاً مهماً، فقبل عامين كان من غير المعقول أن تشتري الكتلة معدات عسكرية وتسليمها إلى غير الأعضاء، ولكن حتى مع هذه التطورات لن تتمكن أوروبا من الدفاع عن نفسها إذا كانت الولايات المتحدة منخرطة في حرب أخرى، وفق التحليل ذاته.

التحليل قال أيضا “رغم الحرب.. كان على شركات الدفاع أن تنتظر أكثر من عام من أجل الحصول على عقود لتجديد مخزونات أوروبا المنخفضة بشكل خطير من الذخيرة، ولم تبدأ الشركات حتى في إنتاج أنظمة أسلحة جديدة، على الرغم من المناشدات التي وجهتها أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، لإنشاء اتحاد دفاعي لهذا الغرض”.

وتابع أن فشل دعوة فون دير لاين يعود لأسباب “تاريخية وجغرافية ونفسية وسياسية وقبل كل شيء دستورية”.

وأضاف “على عكس الولايات المتحدة، المحمية جغرافيا من التهديدات الخارجية، فإن الاتحاد الأوروبي أكثر عرضة للخطر في بعض مناطقه أكثر من المناطق الأخرى، فسكان نارفا في إستونيا على سبيل المثال يعيشون على مسافة نهر ضيق من بلدة إيفانغورود الروسية”.

ومضى موضحا “هؤلاء السكان قلقون من أن روسيا لم تقبل أبداً بخسارة إستونيا في عام 1991، وأنها قد تحاول استعادتها مرة أخرى، وهذا هو السبب في أن إستونيا من أكثر الدول المانحة لأوكرانيا”.

معضلة “التهديد البعيد”

على النقيض من ذلك لم ير سكان لشبونة وروما وبروكسل جندياً روسياً في مدنهم، لذلك فإن معظم البرتغاليين والإيطاليين والبلجيكيين يأملون في إمكانية حل الصراع بين روسيا وأوكرانيا من خلال تسوية سلمية، وليسوا على استعداد لتغيير أسلوب حياتهم بسبب تهديد بعيد.

ومع ذلك، فإن الأمر مختلف تماماً في ألمانيا، فقد رفض الألمان في الغالب الاعتراف بروسيا كتهديد حتى عام 2022، ربما بسبب امتنان الألمان لعملية التوحيد السلمي لبلادهم عام 1991، والذي ينسب إلى اعتدال الزعيم السوفياتي الأخير ميخائيل جورباتشوف.

وفي عام 2018، يقول سيكورسكي إنه أجرى محادثات عفوية مع صحفيين ومحللين في مؤسسات فكرية وسياسيين ألمان بعد ما حدثت موسكو قواتها النووية في منطقة كالينينغراد، واكتسبت للمرة الأولى القدرة على ضرب برلين، وسألهم ألستم قلقين؟ وكانت الإجابات بالنفي.

سيكورسكي يقول إن الألمان حتى ذلك الوقت كانوا مقتنعين بأن السياسة والانفتاح والحوار مع الكتلة الشيوعية هي التي انتصرت في الحرب الباردة، واعتقدوا أن ما نجح مع الاتحاد السوفياتي الأقوى بكثير يمكن أن ينجح مع روسيا بوتين، خاصة الصبر الاستراتيجي والإقناع والتجارة.

وتابع “حتى بعد أن ألقى المستشار الألماني أولاف شولتز خطابه التاريخي الذي أعلن فيه التحول في الموقف الدفاعي لألمانيا، استغرق الأمر عدة أشهر قبل أن تقبل المؤسسة السياسية الألمانية أنه لن يكون هناك عودة إلى العمل كالمعتاد مع بوتين، وربما لا يزال بعض الألمان يأملون في حدوث ذلك”.

سيناريو الكابوس

أما السيناريو الأسوأ بالنسبة لأوروبا، وفق التحليل، فهو اندلاع مواجهة بين الولايات المتحدة والصين على تايوان، وكتب سيكورسكي “قد يستهلك هذا الصراع واشنطن ويترك أوروبا للدفاع عن نفسها”.

وتابع “لكي يتمكن الاتحاد الأوروبي من الدفاع عن نفسه سيتعين عليه اتخاذ القرار الصعب باستثمار موارد جادة في الدفاع، وبشكل قريب”.

المصدر: وكالات