استقر في أدبيات مهنة الطب أن المشاعر الإنسانية قد تكون عنصراً سلبياً ينطوي على إعاقة ما لسير العمل، يكفي أن يكون الطبيب صاحب ابتسامة محترفة ويملك بعض عبارات التشجيع المكررة والمحفوظة التي يقولها بشكل ميكانيكي، أما أكثر من ذلك فيعد نقيضاً للمعايير المهنية الاحترافية التي تحكم علاقته بمريضه.
ويأتي كتاب «ذلك المريض – عن مرضى غيروا حياة أطبائهم للأبد» ليسير عكس التيار ويؤكد أن المشاعر الإنسانية عنصر إيجابي للغاية بل تمضي مؤلفته الكاتبة الصحافية الهولندية «إلين دي فيسر» إلى حد أبعد وهو أن «التورط العاطفي» بين الطبيب ومريضه قد يكون أمراً صحياً للغاية.
كانت النواة الأولى لهذا الكتاب الصادر عن دار «العربي» بالقاهرة، ترجمة نهال نور، مقال بالصحيفة الهولندية الأكثر انتشاراً «دي فولكس جرانت» حول طبيب تغيرت نظرته لمهنته وحياته بسبب مريض، وسرعان ما أثار المقال ردود فعل قوية وتوالت الاتصالات من أطباء آخرين داخل وخارج هولندا يريدون سرد ما لديهم من قصص عجيبة في هذا السياق.
وتتفهم المؤلفة كيف يحتاج الأطباء والممرضون إلى نوع فريد من المشاركة الوجدانية في أثناء ممارستهم مهنتهم، فهم يهتمون بأمر مرضاهم لكن يجب عليهم الاحتفاظ بمشاعرهم بعيداً خلف حاجز يحميهم من العبء النفسي الرهيب بسبب طبيعة عملهم التي تتضمن فقد هذا المريض أو ذاك، ولكن هناك مرضى ينجحون في اختراق هذا الحاجز النفسي ويمسون مشاعر أطبائهم بطريقة ما ويشكلون أفكارهم وأفعالهم.
من هنا لم يعد التعبير عن المشاعر علامة على الضعف في عالم الطب، فلقد ولى الزمن الذي كان يعد فيه الإفصاح عن حقيقة العواطف نقيصة في حق من يعمل في هذا المجال، حيث لا تقتصر تجارب العاملين في المجال الصحي على ممارسة الجوانب المتخصصة لمهام عملهم، بل تتفاعل مع مستوى نفسي إنساني بالغ العمق لدى المرضى وفي ظل مرحلة مصيرية من حياتهم.
ويعج الكتاب بالعديد من القصص الإنسانية في هذا السياق، منها قصة تلك الفتاة التي كانت في السابعة عشرة من عمرها، وقد صدمتها سيارة نقل، وهي تقود دراجتها وطرحتها أرضاً. نُقلت إلى المستشفى، وهي واعية وقادرة على الكلام، اكتشف الأطباء أنها أصيبت بكسر في الحوض تسبب في نزيف بالمعدة، مما أدى إلى انخفاض ضغط دمها بشكل خطير. تم اتباع البروتكول المعتاد نقل دم، ومحلول ملحي.
ويكمل الطبيب «كريم بروهي» بقية القصة قائلاً: «أسرعنا بها إلى حجرة العمليات، كنت طبيباً مبتدئاً في وحدة العناية المركزة وكانت وظيفتي مراقبة ممراتها الهوائية ومساعدة استشاري التخدير بما يجب عليه عمله. جلست بجوارها في مقدمة طاولة العمليات، بينما أسرع فريق الرضوض في التحضير للعملية. كانت تعاني القلق والصدمة، فمنذ ما يقل عن عشرين دقيقة كانت تقود دراجتها بسلام في طريقها إلى مكان ما ربما كان المدرسة أو زيارة أصدقائها، أما الآن فهي مستلقية هنا تحارب من أجل حياتها! تحدثت إليها وشرحت لها الموقف، فنظرت إلي قبل أن تسألني: سأكون بخير أليس كذلك؟ أجبت نعم ستكونين بخير».
لم يستطع الطبيب الشاب أن يفي بوعده، فما حدث بعد ذلك شكّل صدمته الأولى في حياته المهنية، قرر الجراحون تثبيت الحوض بإطار معدني، ولكن عندما قاموا بالفتحة الأولى، فجأة بدأت تنزف من فمها وعينيها، من كل مكان في الواقع.
«واففتها المنية على طاولة العمليات بعد أقل من خمس وأربعين دقيقة من تأكيدي لها أنها ستكون بخير!».
هكذا يعلق «د. كريم» موضحاً أن الاختصاصيين بالمستشفى اجتمعوا بعد بضعة أيام لمناقشة ما حدث بالتفصيل. ويؤكد أن الأمور اختلفت الآن تماماً، فقد أدت الأبحاث التي انطلقت من تلك الواقعة إلى تغيير كبير في بروتوكولات علاج مرضى الحوادث والرضوض الذين يعانون النزيف في جميع أنحاء العالم. وتم الانتقال بشكل كامل إلى طريقة إنعاش جديدة تقوم على الحد من الضرر وتهدف إلى الحفاظ على التجلط وتحسينه، بحيث يتم الإبقاء على ضغط الدم منخفضاً وإعطاء المريض أدوية تساعد على التجلط كما تم تطوير أساليب خاصة للتحكم في تجلط الدم مبكراً حتى عند وقوع الحادث.
وفي النهاية، يعترف د. كريم بروهي أنه لم ولن ينسى مريضته تلك، لقد تركت بداخله ندبة لا تزال عالقة بروحه من الحزن والشجن، كما تركت أيضاً طاقة حماس لديه في أن يتعلم الدرس وينقذ عشرات الحالات الأخرى. يقول معلقاً: «لدى كل الأطباء مقابر داخلية للمرضى الذين يفقدونهم، إنه ثقل نحمله معنا أينما ذهبنا، علينا كأطباء أن نتعلم من كل وفاة تحدث حتى وإن لم نرتكب خطأ ما. كثيراً ما أعود بذاكرتي إلى تلك الفتاة ذات السبعة عشر ربيعاً، رغم أني لم أعرف أبداً وحتى الآن ما اسمها».
المصدر: وكالات