بعد استحواذ الملياردير الأمريكي “إيلون ماسك” على موقع “تويتر” في صفقة بقيمة 44 مليار دولار، صدرت قرارات متعاقبة بالطرد والتسريح وفرض الرسوم المالية، ما أثار موجة جدل واسعة بشأن مستقبل منصة التدوين المصغر وما إذا كانت على أعتاب توسعات ممتدة أم مهددة بالانحسار والتراجع. ففيما يصف “ماسك” قراراته بـ “تحرير الطائر”، يشكك آخرون في قدرة رؤيته لمحتوى أقل مراقبة على الصمود أمام تدفق محتمل لـ “المضامين السامة” وخسائر مادية وشيكة، كشف هو نفسه عن بوادرها عقب أسبوع واحد من الصفقة التي قال إنه لم يعقدها من أجل المال وإنما من أجل الإنسانية، ثم ما لبث أن طرد نصف العاملين بالشركة ليصبح معرضاً لدفع المزيد من الأموال كتعويضات لانتهاك القانون الفيدرالي بإجراء عمليات تسريح جماعي من دون إشعار.
لماذا تويتر؟
بدأ “ماسك” الحديث عن مشاركته في تويتر في مارس 2022 ليحصل على حصة ملكية بنسبة 9.2%، ثم ما لبث أن أعلن نيته الاستحواذ على الشركة، وعقد اتفاقاً فعلياً بقيمة 54.2 دولار لكل سهم في نهاية أبريل الماضي، قبل أسابيع من تشكيكه في الشركة، ثم إعلانه التراجع رسمياً عن صفقة الشراء في منتصف هذا العام، لتقيم الشركة دعوى قضائية لإجباره على إتمام الصفقة، مؤكدةً أن أحاديثه السلبية عن الحسابات المزيفة وشكاوى المخالفات تضر وضعها المالي، حيث هبطت بالفعل قيمة السهم إلى 40 دولاراً في سبتمبر2022. وهي الدعوى التي ظلت مستمرة، قبل أن يوقف “ماسك” ذلك السجال بإتمام صفقة الاستحواذ فعلاً في أكتوبر 2022 وبقيمة السهم نفسه المُقدرة سابقاً، أي أنه وافق على دفع مبالغ زائدة لشركة تواجه تحديات كبيرة.
وقد يبرر البعض اتجاه “ماسك” للاستحواذ على تويتر بولعه بالمنصة وتفاعله الدائم عليها من منظور قدرة الأغنياء على امتلاك ما يحبونه، إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون سبباً كافياً بأي حال من الأحوال لدفع 44 مليار دولار، منها 13 ملياراً قروض تتطلب سداد فوائد تتجاوز المليار دولار في العام الواحد.
وبالنظر إلى الأهمية النوعية التي يمتلكها تويتر كأحد أبرز منصات الجيل الأول لشبكات التواصل الاجتماعي، نجد أن الصفقة تمنح “ماسك” السيطرة المنفردة على واحدة من أهم المنصات العالمية للخطاب السياسي والاجتماعي، وهي الأهمية التي يدركها هو نفسه إذ طالما وصف المنصة بـ “ساحة المدينة الرقمية”، حيث قدم تويتر نموذجاً للتواصل الاجتماعي لم تضاهيه فيه لسنوات أية منصة أخرى. وعلى الرغم من التطوير الذي شهده فيس بوك – على سبيل المثال – لمجاراة منصات المحتوى البصري مثل انستجرام وتيك توك، ظل تويتر معتمداً إلى حد كبير على النص المكتوب، من خلال أسلوب الرسائل القصيرة سريعة التداول التي تعزز التفاعل اللحظي بين المستخدمين، وهو ما جعله رائجاً بين الشخصيات العامة، ولأغراض النقاش والتداول، مما منحه أهمية خاصة في قضايا السياسة والديمقراطية.
هذا النموذج الاتصالي جعل من سرعة الانتشار نقطة تفوق مثالية للمنصة، حيث يُقدر عمر النصف للتغريدة، وهو مقياس يقوم على حساب الوقت المستغرق للوصول إلى نصف المتابعين، بين 20 إلى 23 دقيقة، مقابل ساعة كاملة لقطعة المحتوى على فيس بوك، و19.5 ساعة على انستجرام، و24 ساعة على لينكد إن، وهو ما يكشف عن التفوق الواضح لمنصة تويتر في نشر الأخبار وقيادة النقاشات العامة. وهذه النقاشات أيضاً تجعل من تويتر مستودعاً ثرياً لجمع وتحليل البيانات المتعلقة بتلك النقاشات واتجاهاتها، ومن ثم امتلاك قدرة فائقة على إدارة عمليات التوقع وقيادة التأثير، لا سيما مع النظر إلى حجم التغريدات المولدة على الموقع والتي تصل إلى خمسمائة مليون تغريدة في اليوم الواحد.
وتُثار شكوك بشأن استغلال تويتر لصالح شركات “ماسك” الأخرى ممثلة في “تسلا” للسيارات الكهربائية، و”سبيس إكس” للصواريخ، وكذلك “نيورالينك” للتكنولوجيا العصبية والتي تعمل على تطوير واجهات حوسبية بين الدماغ والآلات القابلة للزرع، واحتمالات استخدام البيانات من خوارزميات تويتر لتسويق شركاته أو على الأقل استخدامها لزيادة كفاءة تعليم الآلات وتطوير أدائها، بالرغم من أن تشريعات حماية البيانات حول العالم تمنع استغلال البيانات الشخصية على تويتر لأغراض الترويج لشركات أخرى تتبع المالك نفسه أو أي شخص آخر.
ملامح جديدة:
على الرغم من إصرار “ماسك” على مبررات الدفاع عن حرية التعبير كدافع رئيسي للاستحواذ على تويتر، فإن التلميحات التي ألقى بها هنا وهناك بشأن مستقبل المنصة تعكس رؤية اقتصادية بامتياز لتوسعات كمية ونوعية مفادها تأسيس “تطبيق شامل يستخدمه أكثر من مليار مستخدم ويحقق المزيد من الأرباح”، إذ إن تحليل ما أعلنه يكشف عن عدة خطوط أساسية غير محددة الإجراءات بعد، وهي كالتالي:
1- تطبيق ملياري، وذلك بزيادة عدد المستخدمين على تويتر إلى “ما لا يقل عن مليار شخص”، فيما سيمثل نمواً هائلاً لمنصة تضم حوالي 329 مليون مستخدم نشط حالياً، وهو الهدف الذي يصعب تحقيقه بأنماط استخدام المحتوى القائمة، ما قد يعيد صياغة هوية الموقع تماماً، ويتسق مع حديث “ماسك” عن صرف مكافآت لمنتجي المحتوى على غرار منصات أخرى، وهم المنتجون الذين يقدمون في الغالب محتوى متعدد الاهتمامات ولكن تسيطر عليه الخفة لتحقيق الرواج المطلوب. وهو السيناريو الذي لا يمكن فصله عن الاستطلاع الذي نشره “ماسك” عبر حسابه يوم 31 تشرين الأول/أكتوبر الماضي بشأن عودة موقع Vine لمقاطع الفيديو القصيرة الذي اشتراه تويتر في عام 2012 إلا أنه توقف في عام 2017، وهو الاستطلاع الذي شارك فيه 5 ملايين شخص، منهم 70% وافقوا على عودة منصة الفيديو المتوقفة.
2- منصة أقل صرامة، وهي السياسة التي اتبع “ماسك” خطاباً شعوبياً في الترويج لها بالتغريد “القوة للشعب”، وانتهاء “عصر الأسياد والفلاحين”، وتشكيل مجلس جديد لإدارة المحتوى content moderation council من دون تفاصيل عن ذلك التشكيل أو صلاحياته، علماً بأن تويتر لديه بالفعل “مجلس الثقة والأمان” Trust and safety council الذي يُعرف نفسه بأنه يتكون من مجموعات استشارية تضم منظمات مستقلة تعمل بشكل طوعي، وتعمل على قضايا مثل منع الانتحار والصحة العقلية والاستغلال الجنسي للأطفال. بيد أن تلك التعديلات أثارت القلق بشأن انتشار الأخبار المزيفة وخطابات الكراهية، إلا أن إيلون قال في مذكرة للمعلنين نشرها على حسابه يوم 27 تشرين الأول/أكتوبر الماضي إن “تويتر ينبغي أن يكون دافئاً ومرحباً بالجميع، وليس جحيماً مجانياً للجميع، حيث يمكن لأي شخص قول أي شيء دون عواقب”، ما يعني وجود ضوابط لم يتضح بعد حدودها أو قدرتها على توفير محتوى جيد وموثوق على المنصة.
3- الالتزام بالقوانين المحلية، على الرغم من تأكيد “ماسك” أولوية حرية التعبير، فإنه سيلتزم بالقوانين المحلية لأي بلد يعمل فيه تويتر، وهو ما أثار الجدل بشأن تأثير هذا الالتزام على الحريات، ومدى اتباع الشركة معايير متباينة جغرافياً وفق مصالحها الاقتصادية.
4- منصة شاملة ومتعددة الخدمات، حيث نشر “ماسك” تغريدة في 4 تشرين الأول/أكتوبر الماضي ذكر فيها أن شراء تويتر تمهيد لإنشاء منصة جديدة لكل شيء، وهو ما يتكامل مع ما قاله مسبقاً بشأن رغبته في جعل تويتر رائعاً مثل “وي شات” الصيني، ما يعني وجود منصة جامعة لا تحقق فقط أغراض التواصل الاجتماعي، وإنما يمكن استخدامها للدفع والتبادل المالي وتقديم الخدمات المختلفة مثل النقل والمواعدة والتسوق ومشاهدة الفيديوهات والألعاب وطلب السائق والبحث، الأمر الذي يعيد تعريف “تويتر” تماماً من ناحية، كما يضع مستخدميه تحت السيطرة الكاملة من ناحية أخرى.
5- القدرة على تحقيق الأرباح، فقد استهل “ماسك” إدارته الجديدة بقرارات تساعده على “دفع الفواتير”، كما يقول، حيث فرض رسوم تُقدر بـ 8 دولارات للحصول على “علامة التحقق الزرقاء” والحصول على جملة مزايا تتضمن الأولوية في الردود والإشارات والبحث والقدرة على نشر فيديوهات وتسجيلات صوتية أطول، وكذلك تقليص نسبة ظهور الإعلانات إلى النصف، وهو ما يأتي ضمن استراتيجية مالية لتحقيق الأرباح وجعل تويتر أقل اعتماداً على الإعلانات والتي يقدر مدخولها بخمسة مليارات دولار سنوياً. واتخذ أيضاً المالك الجديد قرارات وصفها بيانه بـ “الصعبة” لتسريح 3700 موظف من أصل 7500، بما يعادل نصف العمالة داخل الشركة، بهدف تحفيز بيئة العمل التي وصفها بـ “المسترخية جداً” وفي محاولة لخفض التكاليف، مع إلغاء سياسة العمل عن بُعد، حيث راسلت الشركة موظفيها يوم 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2022 بإغلاق مكاتبها مؤقتاً وتعليق بطاقات دخول الموظفين، فيما تشارك موظفون صوراً لإبطال قدرتهم على الدخول لحساباتهم الوظيفية وإزالتهم من مجموعات العمل الجماعي على تطبيق “سلاك”. وقد عقّب “ماسك” على قرارات التسريح، في تغريدة يوم 5 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، موضحاً أنها حتمية لتقليص خسائر الشركة التي تُقدر بأربعة ملايين دولار في اليوم الواحد، وأن كل من تم تسريحه تم عرض ثلاثة أشهر عليه كتعويض، وهو المبلغ الذي يزيد 50% عن المقرر قانوناً.
تحديات محتملة:
على مدار سنوات، رسخ “ماسك” لنفسه صورة ملهمة كرائد أعمال مبدع يسبح ضد التيار ويثبت للجميع دوماً أنه كان ينظر لما هو أبعد من أفكارهم الضيقة، وهو ما اتسق مع دخوله الدرامي إلى مقر تويتر حاملاً مغسلة، في دلالة على التطهير وتصحيح المسار، وإصراره على السخرية من الانتقادات الموجهة لقراراته الجديدة بنشر “ميمز” للمقارنة بين دفع 8 دولارات للعلامة الزرقاء وبين أسعار منتجات أخرى منها سعر كوب واحد من القهوة، فضلاً عن تعديل توصيفه على تويتر من رئيس تويتر Twitter chief إلى مدير الخط الساخن لشكاوى تويتر Twitter complaint hotline operator، في تحدٍ واضح للانتقادات، وفي تأكيد أنه يمتلك رؤية واضحة قادرة على النجاح.
ولكن أمام ذلك الإصرار والتحدي، تظهر مجموعة من التحديات التي تهدد مستقبل تويتر أو قد تؤذن باستمراره تحت علامة تجارية أخرى بهوية جديدة، وهو السيناريو الذي تشير إليه تغريدات المالك القائل بأن شراء تويتر بداية لتطبيق “إكس” الشامل، الأمر الذي يعني إعادة صياغة هوية جديدة للموقع قادرة على جذب المستخدمين وزيادة الأرباح كما سبقت الإشارة، وهو ما يتسق مع تفاصيل تقرير داخلي للشركة بعنوان “أين ذهب المغردون”، كشفت عنه وكالة “رويترز” يوم 26 تشرين الأول/أكتوبر الماضي يقول إن هناك تراجعاً في أعداد المغردين الأكثر نشاطاً بمجالات الأخبار والرياضة والترفيه، وهي الموضوعات التي بنت صورة تويتر كساحة للحوار، وكانت من النقاط الجاذبة للمعلنين أيضاً، ما يجعل أنماط النمو تتناقض مع القيم المتصورة للشركة.
على الصعيد المالي، يُعد تراجع الإيرادات الإعلانية مهدداً واضحاً لتويتر، لا سيما مع ضغوط المؤسسات المدنية، وكذلك المخاوف من انتشار المحتوى غير اللائق والمزيف وخطابات الكراهية تحت الإدارة الجديدة التي تتبع نهجاً أقل صرامة. فقد أوصى تحالف “أوقفوا تويتر السام” Stop toxic twitter الذي يضم 60 مجموعة حقوق مدنية، و20 معلناً على تويتر، بمغادرة المنصة حال اتباع خطط لتقويض الإشراف على المحتوى. وقد فعلت شركات هذا الإجراء، حيث أوقفت شركات “أودي” و”جنرال موتورز” و”جنرال ميلز” التابعة لشركة “فولكس فاجن”، الإنفاق الإعلاني مؤقتاً وإلى أجل غير مسمى، ما دفع “ماسك” للتغريد بأن تويتر شهد انخفاضاً هائلاً في الإيرادات بسبب ضغوط مجموعات الناشطين على المعلنين.
على جانب آخر، فإن التخلص السريع من نصف العاملين في تويتر، ومنهم قادته المؤسسين، قد يؤثر على أداء الشركة وحاجتها لبعض الوقت من أجل التعافي من هذا الاستئصال العنيف، فضلاً عن التكلفة المادية المتوقعة لتعويضات تلك العمالة المسرحة، واحتمالات مواجهة المزيد من الدعاوى القضائية، والتشكيك في القدرة على إدارة المحتوى عقب هذا التخفيض بالرغم من مشاركة “ماسك” تغريدة لـ “يويل روث”، المسؤول عن الأمن والنزاهة في تويتر، يوم 4 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، والتي يؤكد فيها استمرار تطبيق سياسات المحتوى، وهو التأكيد الذي لم يكن كافياً للإقناع بأن تسريح الآلاف أمر غير مؤثر على المحتوى المتداول عبر المنصة.
ويزيد أيضاً من المخاوف المستقبلية بشأن سياسات المحتوى، تحويل تويتر إلى شركة خاصة، ومن ثم جعلها أقل عُرضة للرقابة والمساءلة مما هي عليه الآن، إذ لا يتعين على الشركات المملوكة للقطاع الخاص تقديم إفصاحات عامة ربع سنوية حول أدائها، كما أنها تخضع لتدقيق تنظيمي أقل ويمكن أن تخضع لرقابة أكثر إحكاماً من قِبل المالك الذي يمتلك القدرة على الاستفادة من المنصة وتعديل قواعد المحتوى وأولوياته بما لا يخدم بالضرورة جمهور المستخدمين. كذلك يصبح من المستحيل اكتشاف من يتخذ القرارات حول كيفية تصميم الخوارزميات، وما يستتبعه ذلك من تأثير حول فرص ظهور وانتشار موضوعات بعينها، وتحديد ما هو حقيقي مما هو زائف، وغيرها من المعايير التي تعمل وفقها تلك الآلات وتنفذها، وتحيزات تصميمها.
ويهدد تويتر، أيضاً، صعود منافسين تمت الإشارة إليهم كبدائل لـ “الطائر الأزرق”، مثل Truth Social وBlue sky، لا سيما مع نشر تقارير تفيد بهجرة مستخدمي تويتر بالفعل عقب صفقة الاستحواذ، حيث قالت شركةBot Sentinel ، إن نتائج تحليل أكثر من 3.1 مليون حساب ونشاطهم يومياً على تويتر تكشف عن أنه تم إلغاء تنشيط حوالي 877 ألف حساب، وتعليق 497 ألف حساب إضافي، بين 27 تشرين الأول/أكتوبر و 1 تشرين الثاني/نوفمبر 2022، هذا بخلاف غضب المستخدمين المؤثرين من الاستراتيجيات الجديدة، وإفساد قيمة “العلامة الزرقاء” التي حصلوا عليها بجودة المحتوى الذي يقدمونه وموثوقيته، فيما تقدمها الشركة الآن مقابل المال.
الخلاصة، يبدو من المبكر التشكيك في رؤية “ماسك” لإدارة تويتر، أو أي ما سيكون عليه اسمه مستقبلاً، ولكن من الواضح أنه سيواجه الكثير من الصعوبات والضغوط التي يبدو أنه مستعد للكثير منها، لا سيما في ظل توجيهه خطاباً يتسم بالإصرار على المُضي قُدماً فيما خططه، فضلاً عن امتلاكه ثروة ضخمة تجعله قادراً على تحمل بعض الخسائر المحتملة من أجل أرباح مستقبلية يبدو أنه سيحققها من خلال تويتر جديد أو وريث قادم.
المصدر: مركز المستقبل