تشهد الحرب الروسية – الأوكرانية تحولاً ميدانياً قد يُعيد تشكيل مساحة النفوذ العسكري في أوكرانيا، وذلك في أعقاب انسحاب القوات الروسية من مدينة خيرسون في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2022. وعلى الرغم من أن هذا الانسحاب كان يبدو متوقعاً بعد الأوامر المباشرة من قِبل وزير الدفاع الروسي، سيرجي شويغو، في 9 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، الذي طالب فيها الجنود الروس بالانسحاب من الضفة الغربية لنهر دنيبرو، علاوة على نقل روسيا خلال الأسابيع الماضية أكثر من 70 ألف شخص من المنطقة؛ فإنه قد أثار جملة من التساؤلات حول دلالاته وتأثيراته المستقبلية، لدرجة أن البعض اعتبر أن الانسحاب الروسي من خيرسون سيكون نقطة فارقة ستختلف الترتيبات والتفاعلات التي سبقتها عن تلك التي ستأتي بعدها.
انسحاب جدلي:
تمثلت ردود الفعل والرؤى التقييمية لعملية الانسحاب الروسي من مدينة خيرسون في اتجاهين متعارضين، حيث اعتبر أنصار الاتجاه الأول أن ما حدث يمثل تحدياً كبيراً للاستراتيجية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وينظر هؤلاء للانسحاب كونه نقطة تحول ومحطة فارقة ضمن مساعي كييف لإحكام سيطرتها على جنوب البلاد. وفي هذا الإطار، وصف سيرجي ماركوف، المستشار السابق للكرملين، الانسحاب بأنه أكبر هزيمة جيوسياسية لروسيا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. فيما أشار الرئيس الأمريكي، جو بايدن، إلى أن الانسحاب دليل على المشاكل التي يعانيها الجيش الروسي في الحرب الأوكرانية. واعتبر الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، أن دخول وحدات من القوات الخاصة الأوكرانية إلى خيرسون يعد يوماً تاريخياً لبلاده. كما رأت وزارة الدفاع البريطانية أن الانسحاب بمنزلة فشل استراتيجي لموسكو. ووصف مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، سيطرة أوكرانيا على خيرسون بالنصر الاستثنائي.
من ناحية أخرى، يرى اتجاه آخر أن روسيا لم تنسحب من خيرسون، وأنها لا تزال تسيطر على جزء كبير من المناطق الواقعة في شرق نهر دنيبرو، وأن ما حدث لا يخرج عن كونه تراجعاً تكتيكياً تسعى موسكو من خلاله لإعادة انتشارها وترتيب أوراقها وأدواتها العسكرية والعمل على تعزيز مواقعها الدفاعية بهدف الاستعداد لمرحلة جديدة من الحرب. ويدعم أصحاب هذا التوجه رؤيتهم بشروع روسيا منذ فترة في نقل الجنود والمعدات وتغيير مواقع القيادة العسكرية، وهو ما يشير إلى أن الانسحاب الأخير لم يكن مفاجئاً، بل كان مخططاً.
دلالات مختلفة:
ثمة دلالات يمكن الوقوف عليها من خلال متابعة التفاعلات المصاحبة للانسحاب الروسي من خيرسون، والتي لا تنفصل عن مجمل التطورات الميدانية والتحولات المرتبطة بالحرب الأوكرانية، وهو ما يمكن تحديده فيما يلي:
1- استمرار الصدمات العسكرية لروسيا: تعكس التحولات الأخيرة في الحرب الأوكرانية أن روسيا لم تعد تمتلك القدرة المطلقة في توجيه دفة هذه الحرب والتحكم في مسارها، خاصةً في ظل الخسائر الميدانية والعسكرية التي تعرضت لها القوات الروسية خلال الفترات الماضية. إذ يعتبر الانسحاب من خيرسون ضمن الصدمات الكبرى التي لحقت بموسكو، خصوصاً بعدما نجحت أوكرانيا في السيطرة على مدينة خاركيف في أعقاب هجوم مضاد شنته قواتها في مطلع شهر أيلول/سبتمبر الماضي، فضلاً عن نجاح كييف في ضرب المواقع الاستراتيجية واللوجستية لروسيا على غرار استهداف جسر القرم في شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي. كما لا ينفصل التطور الأخير عن الإخفاقات العسكرية المتتالية لروسيا، ولعل عدم القدرة على إخضاع كييف لسيطرتها، وتراجع موسكو عن أهدافها العسكرية عدة مرات، وتبديل القيادات العسكرية المسؤولة عن إدارة المعارك؛ هي أدلة على حالة الارتباك والتخبط التي تسيطر على صناعة القرار العسكري في روسيا.
2- تصاعد الشكوك حول استراتيجية موسكو: يضع الانسحاب من مدينة خيرسون، الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في وضع حرج، خاصةً أن المدينة تعتبر محوراً استراتيجياً لمجمل تحركات موسكو في مواجهتها العسكرية مع أوكرانيا، كما أن تركها خالية للقوات الأوكرانية جاء بعد فترة قصيرة من احتفال بوتين بضمها للاتحاد الروسي، وسط تعهدات من الكرملين بأن موسكو ستبقى في المناطق الأربع التي ضمتها للأبد. وعليه لا يفي التراجع في خيرسون، حتى ولو كان تكتيكاً، بهذه التعهدات التي كانت تؤكد أن أية اعتداءات أو هجمات على تلك المناطق تعد هجوماً على روسيا يستوجب الرد بشكل حازم. كما أن خسارة الميزة الاستراتيجية التي كانت تمنحها خيرسون للقوات الروسية قد تزيد من الشكوك المثارة حول الاستراتيجية العسكرية لموسكو في أوكرانيا، وجدوى استمرار الحرب في ظل عدم قدرة موسكو على تأمين مكاسبها الاستراتيجية وتحولها من الوضع الهجومي إلى الدفاعي بمرور الوقت.
3- نجاح استراتيجية “التقدم البطيء” لأوكرانيا: بمفهوم الربح والخسارة، يبدو أن الاستراتيجية الأوكرانية قد حققت تقدماً ملموساً مقارنةً بوضع القوات الروسية، حيث عمدت كييف إلى اتباع استراتيجية إسقاط المدن والقرى واحدة تلو الأخرى من خلال مهاجمة القوات الروسية ببطء. واستغرق إجبار روسيا على الخروج من خيرسون، ما يزيد على شهر ونصف منذ أن شنت القوات الأوكرانية هجوماً مضاداً في نهاية أغسطس الماضي، بهدف الضغط على القوات الروسية وتضييق الخناق عليها. وفي سبيل تحقيق ذلك، عملت أوكرانيا على حرمان روسيا من عدد من المزايا اللوجستية، وذلك من خلال مهاجمة الجسور وطرق الإمداد الرئيسية، الأمر الذي ساهم في عزل القوات الروسية في خيرسون على الضفة الغربية لنهر دنيبرو، وفرض مزيد من التحديات والضغوط عليها. وهذا ما يمكن ملاحظته من تصريحات قائد القوات الروسية في أوكرانيا، سيرجي سوروفكين، في 19 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حيث قال إن “موقفهم في خيرسون صعب”، وألمح وقتها إلى أن الانسحاب بات ضرورياً.
4- تأكيد فعالية الدعم الغربي لكييف: لم يكن الصمود الأوكراني متوقعاً منذ اندلاع الحرب، إلا أن عامل الوقت أثبت أن القوات الأوكرانية بإمكانها تحقيق نجاحات ومكاسب ميدانية شريطة استمرار الدعم الغربي لها. وبالتالي يدل الانسحاب الروسي من خيرسون وعدد من المدن في أوكرانيا، على فعالية المساعدات العسكرية الغربية وقدرتها على التأثير على مجريات الحرب، حيث استخدمت كييف في حملتها العسكرية لتحرير خيرسون أنظمة الصواريخ بعيدة المدى التي حصلت عليها من الولايات المتحدة، وهو ما فرض قيوداً على المجهود الحربي الروسي. وعليه، يمكن أن يؤدي حصول أوكرانيا على مزيد من الدعم العسكري الغربي، إلى مواصلة المكاسب واستنزاف روسيا بشكل أكبر، حيث إن هذه المساعدات من شأنها إلحاق الضرر بالقوات الروسية، كما أن تزويد أوكرانيا بمنظومات دفاعية متطورة يُمكنها من الحد من تأثير الضربات الصاروخية الروسية مستقبلاً، مما يصب في صالح كييف التي بدأت تقلص مساحات السيطرة العسكرية لروسيا خلال الفترة الماضية.
مسارات محتملة:
على الرغم من صعوبة الجزم بما يمكن أن يكون عليه الوضع الميداني والعسكري في الأيام التالية لانسحاب القوات الروسية من خيرسون، فإن السياق العام والتفاعلات المصاحبة لتلك التطورات تضعنا أمام عدد من المسارات التي يمكن أن تتحكم في مشهد الحرب خلال الفترة المقبلة، كالتالي:
1- تكثيف المعارك في شرق أوكرانيا: يفترض هذا المسار أن القوات الروسية ستسعى لرد الاعتبار ومحو الصورة السلبية المصاحبة للانسحاب من خيرسون، والعمل على تعويض الخسائر التي لحقت بها خلال الأشهر الماضية، وقد يكون شرق أوكرانيا مسرحاً محتملاً لمزيد من المعارك بين الطرفين خلال الفترة القادمة. ويفترض هذا السيناريو إعادة روسيا نشر قواتها وعناصرها المنسحبة من خيرسون في شرق أوكرانيا، مع تكثيف الجهود العسكرية لحسم السيطرة على إقليم دونباس بشكل كامل، بما يحقق جزءاً من أهدافها الاستراتيجية. ويمكن الاستدلال على التصعيد الكبير المُحتمل في شرق أوكرانيا من خلال تصريحات الرئيس زيلينسكي، في 14 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، حيث وصف القتال في دونيتسك الشرقية بالجحيم، ما يشير إلى مستوى وصعوبة التصعيد القائم والمُحتمل شرقاً.
2- تجميد خطوط المواجهة: ينطلق هذا السيناريو من فرضية أن كل طرف في الحرب الأوكرانية سوف يسعى لضمان استمرار نفوذه على المناطق الجغرافية الواقعة تحت سيطرته، دون التعرض لأية خسائر عسكرية على الأقل في الوقت الراهن، في ظل قناعة الطرفين أن استمرار المعارك بذات المستوى مع دخول الشتاء سيكون أمراً بالغ الصعوبة. إذ تشير التقديرات إلى أن المجهود العسكري للطرفين سيتأثر بحالة الطقس وانخفاض درجات الحرارة، ما قد يفرض تحديات وقيود على العمليات العسكرية. وعليه، يُرجح أن تتراجع الهجمات والضربات العسكرية بين القوات الروسية والأوكرانية، مع تثبيت خطوط المواجهة خلال فصل الشتاء، وهو ما يضعنا أمام سيناريو يشبه “الهدنة الاضطرارية”.
3- اختبار الأدوات الدبلوماسية: يرتكز هذا المسار على فرضية عدم قدرة طرفي الحرب على حسم المعارك بشكل كامل، مما يزيد من حالة الاستنزاف والخسائر لديهما، الأمر الذي قد ينتهي بتغليب الأداة الدبلوماسية على العسكرية، ومحاولة اختبار جهود الوساطة بين الطرفين. وفي هذا الإطار، يظل من الصعب تحقيق اختراق دبلوماسي وسط التصعيد الراهن، علاوة على عدم وضوح الرؤية بشأن التنازلات التي يمكن أن يقدمها كل طرف للآخر، وحدود المقبول والمرفوض بالنسبة لهما، فضلاً عن شروط العملية التفاوضية، وطبيعة الوسيط. ومع ذلك، يبقى هذا الاحتمال قائماً، خاصةً بعدما تصاعدت الأحاديث بشأنه مؤخراً، حيث ألمحت عدة تقارير إلى مساعٍ أمريكية وأوروبية للضغط على أوكرانيا للقبول بالجلوس على طاولة المفاوضات، وحثها على تقديم تنازلات فيما يتعلق باستعادة شبة جزيرة القرم، علاوة على إشارات مماثلة من قِبل روسيا بشأن الانفتاح على التفاوض. وعلى الرغم من أن نهاية الحرب الجارية ربما لن تكون إلا من خلال المفاوضات والدبلوماسية، فإن الوصول إليها قد يحتاج مزيداً من الوقت.
في الأخير، يمكن أن تؤثر التطورات المرتبطة بخيرسون على مسار التفاعلات العسكرية والميدانية القادمة، حيث إن سيطرة القوات الأوكرانية عليها تمنحها عدة مزايا، أهمها حرمان روسيا من موقع استراتيجي مهم، وجعل شبة جزيرة القرم في دائرة نيران المدفعية الأوكرانية، بجانب قدرتها على تمديد الهجمات لعدد من المناطق في ظل ارتفاع الروح المعنوية للقوات الأوكرانية. من ناحية أخرى، تحد خسارة روسيا لخيرسون من إمكانية سيطرتها على مدينة أوديسا وعدد من المحاور المهمة في جنوب أوكرانيا، كما يمكن أن تؤثر على سمعة موسكو العسكرية، وتزيد من الشكوك المثارة حول جدوى استمرار الحرب في ظل التراجع الميداني.
المصدر: مركز المستقبل