إذا كان الأب كوبلستون في موسوعته الشهيرة عن «تاريخ الفلسفة» يطلب من مؤرخ الفلسفة: «أن يجاهد لكي يكون موضوعياً» قدر المستطاع، بمعنى أن «يتجنب تشويه الوقائع حتى تتناسب مع نظريته، أو أن يهمل وقائع أخرى لأنها لا تدعم موقفه» فإننا نستطيع أن نقول إن وليم كلي رايت مؤلف هذا الكتاب «تاريخ الفلسفة الحديثة» (ترجمه إلى العربية محمود سيد أحمد) قد حقق الشرط العام، فعلى الرغم من أنه أمريكي الجنسية، فهو لا يكتب عن الفلسفة الأمريكية البراجماتية أكثر من ستين صفحة، مع أنه يكتب بإسهاب شديد عن الفلسفة الألمانية التي يقلل الأمريكيون عادة من شأنها، بعنوان الفترة المثالية في عصر التنوير، وعن كانط ما يقرب من خمسين صفحة، وفشته والحركة الرومانسية ما يقرب من ذلك، كما يقف عند هيجل وقفة طويلة، وهكذا يحقق المؤلف ما قاله في تصديره: «لقد حاولت أن أكون محايداً».
وكما يقول كوبلستون أيضاً: ينبغي ألا يكون الهدف الأول لنموذج البحث عن أخطاء الفيلسوف، والكشف عما تنطوي عليه فلسفته من متناقضات، أي ألا يكون موقفه سلبياً خالصاً، بل لابد أن يكون إيجابياً أيضاً، بحيث يلفت أنظار القراء إلى ما أنجزه الفيلسوف وإلى الحقائق الإيجابية التي كشف عنها، وهذا ما فعله رايت تماماً، بل ما وعد به، رغم أنه بالطبع لم يغفل الأخطاء والمتناقضات لكنه لم يجعل لها الأولوية.
كثيراً ما يختم المؤلف كتابه الحديث عن الفيلسوف بإبداء وجهة نظره الخاصة في فلسفته، فيقدم للقارئ تقييما عاما، أو بعض الانتقادات المختصرة التي تساعده في فهم الفيلسوف على نحو أفضل، وأضاف في نهاية كل فصل مجموعة من المراجع الأساسية إذا ما أراد القارئ التوسع في دراسة الموضوع، الذي عرض له، إلى جانب التعليقات في نهاية الكتاب، فضلاً عن معجم بأهم المصطلحات، يساعد القارئ على فهم الفلسفة الحديثة، بصفة عامة.
غير أن فهم المؤلف للفترة الزمنية التي تستغرقها الفلسفة الحديثة جديد، ومهم في آن معاً، كما يقول إمام عبد الفتاح إمام في تقديمه للكتاب، لأنه يجعلها تبدأ من عصر النهضة حتى عصرنا الراهن، بحيث تشمل مساحة أوسع كثيرا مما نفهم بها عادة مصطلح «الفلسفة الحديثة» ويحتاج ذلك إلى إلقاء نظرة سريعة على الكتاب بصفة عامة.
ينقسم الكتاب إلى أربعة أجزاء يسبقها تمهيد مكون من ثلاثة أقسام يتحدث فيها المؤلف عن الفلسفة الحديثة بصفة عامة، وكيف تفترق عن الفلسفة القديمة من ناحية، والوسيطة من ناحية أخرى، وهو يعتقد أن الفلسفة الحديثة تتميز عن الفلسفتين السابقتين بثلاث خصائص: أولاً: نظرتها العلمية في مقابل النظرة الاستاطيقية عند اليونان، والنظرة اللاهوتية في العصور الوسطى، كما تتميز ثانيا: بالروح الفردية في الدين والعلم إلى جانب الفكر الفلسفي، وهي ثالثا: فلسفة دولية وليست قومية، بمعنى أنها نتاج فلاسفة من دول متعددة.
وهكذا يعرض رايت علينا تقسيما جديداً وتصوراً خاصاً لمسار الفلسفة الحديثة، وربما أمكن لنا أن نتساءل: إذا كان رايت يجعل الفلسفة المعاصرة تبدأ من وفاة هيجل عام 1831 حتى الوقت الراهن فكيف يمكن أن تكون جزءاً من الفلسفة الحديثة؟ وإذا قيل إنه يستخدم مصطلح الفلسفة الحديثة بمعنى واسع ليشمل «الفلسفة المعاصرة» أيضا فلماذا أسقط الفلسفة الوجودية من كيركجور حتى سارتر؟ ولماذا أسقط الواقعية الجديدة في إنجلترا؟ بل لماذا أسقط الاتجاه الفينومنولوجي؟، ولماذا ترتد الفلسفة الحديثة في الماضي لتشمل عصر النهضة أيضا الذي هو بالقطع تمهيد لهذه الفلسفة؟، وإذا كان ديكارت فيلسوفاً من فلاسفة عصر النهضة فكيف يكون أباً للفلسفة الحديثة؟
ربما جاءت هذه الأسئلة نتيجة للتصور الجديد الذي يقدمه رايت للفلسفة الحديثة، والذي يغطي مساحة واسعة من تاريخ الفلسفة، لكنها لا تقلل من أهمية هذا الكتاب الذي يمثل إضافة إلى المكتبة الفلسفية العربية.
المصدر: وكالات